راعي البقر المندحر
مقداد عبد الرضا /
“هيلن بطلة طروادة”, هكذا سمي الفيلم وقتها عند افتتاح سينما الخيام عام1957, كانت العادة تجري ان الفيلم الذي يعرض في سينما الخيام وبعد ان ينتهي يذهب الى سينما روكسي عند بداية شارع الرشيد وبعدها يعبر الى (ذاك الصوب) ليحط رحاله وليستقر في سينما بغداد, قدري. بيتنا كان قرب سينما بغداد, اخي الراحل كان يعرف شغفي بالسينما, نفعت توسلاتي, عرض الفيلم, قتلت هيلن في النهاية وتم سبي آمال الحبيبة, أخي اظنه لم يفهم الفيلم الا كمغامرة اجملها الحصان الخشبي, انا، وعند الخروج، بكيت بكاء مراً, حاول أخي ان يفهم, اخبرته بانني لم احضر دروسي ليوم الغد, لم أكن حقا اعرف لم كل ذاك البكاء, لكنني وبعد سنوات طوال والى ان اشتد عودي عرفت السبب, كان احتجاجا على اندحار الجمال.
شاب مهيب (جيكولو) يعيش على فحولته, هو من تكساس موطن رعاة البقر, مدلل ولديه عشيقة يداعبها أنى يشاء لذلك فهي لاتريد التخلص منه وهذا مايجعله يشعر بالتفوق والبطولة, في البدايه نراه يدلف الى الحمام يتطلع الى جسده الفتي وتاخذه النشوة, يرتدي ملابس رعاة البقر ومهمازا يعلن عن وجوده, بهذه الشخصية يرسم لنا المخرج جون شيزلنجر بطله جو(جون فويت) للحلم بغزو واحدة من اكثر المدن تعقيدا في العالم, انها مدينة نيويورك. يحمل جو مذياعا يبث موسيقى واغاني رعاة البقر ويعرف اخبارهم, يضع في فمه اللبان ويصعد الحافلة المتجهة الى نيويورك حيث النساء الثريات اللواتي سيدفعن له الكثير مقابل فحولته. جو لايعرف قسوة نيويورك فما ان تقع قدمه فوق ارضها حتى يصطدم باول شخص يطلب منه ان يدفع, انه عامل الفندق الذي حمل له الحقيبة, مضطرا يدفع له جو ويبدا جولته البطولية في طرقات المدينة الوعرة يبحث عن صيد جسد ظامىء يدفع له اجر المتعة, يوفق في اصطياد واحدة تحاول اخفاء خريفها بالمساحيق, نكتشف تحت وطاة الجهد المبذول بانها بغي وبدلا من ان تدفع لـ(جو) اضظر هو تحت وطاة صراخها ان يدفع لها(20) دولارا, هي ذي اولى الخيبات يا جو. في هذا اللقاء يقدم لنا المخرج شيزلنجر واحدا من اروع المشاهد الدال على جو المدينة ووعورة مسالكها, عند السرير نسيت البغي مفاتيح تشغيل قنوات التلفزيون واثناء تقلبها في السرير تتقلب الصور في التلفزيون, رياضة, وحش ضخم ينفث نارا, قس, مطرب, اعلان عن احدى السلع, جريدة اخبارية, طفلة تصرخ مرعوبة من مشاهد الحرب, احدى العاب الحظ وتساقط النقود منها, كان المخرج يريد ان يخبرنا بان هذه المدينة مدينة متناقضات وغاية في التعقيد فهل بمقدور راعي بقر بائس ان يخترقها؟ يلتقي جو بـ (ريكو) داستن هوفمن (في واحد من ابرع ادواره) الذي يعيش في شوارع نيويورك الخلفية حيث القوادين والبغايا والمقامرين والشواذ, ريكو واحد من هذا الخليط فهو نشال وقواد وله عاهة تعيقه عن السير(يكزل), ريكو هو الاخر يحلم بالسفر الى مدينة فلوريدا حيث الشمس تسطع في كل وقت وفيها الكثير من جوز الهند الذي يحبه وتخلصا من نيويورك وجوها العابق بالنتانة يقوم ريكو بتعريف جو على دانيال الشاذ, يرتبك لهذه المعرفة ويقرر الخروج والتخلص, لكن جو يظل يدفع ولم يتمكن من الحصول على شىء حتى شارف على الافلاس حيث قام صاحب الفندق اخيرا بطرده بعد ان تم الحجز على امتعته فيضطر الى الاقامة عند ريكو, هذا المكان الذي تنوي البلدية اقتلاعه, كم يذكر هذا الامر بمسرحية سكان الكهف لوليم سارويان حيث وجود مسرح مهمل يعيش فيه الملك والفتاة والملاكم وتاتي البلدية لاقتلاعه, باحساس دفين واداء بارع يفكر ريكو باستغلال جو وفحولته ويصبحان شريكين, يغير جو من شكله تماما, يقص شعره وينظف حذاءه ويسرق له ريكو قبعة ويدفع به الى الفنادق ليجرب حظه مع الاخذ بنصيحة بان يتسلم اجره نقدا وبدون صك لان النساء وفي صباح اليوم التالي وبعد ان تنتهي المتعة يتصلن بالبنك ويطلبن عدم صرف الصك, يفشل جو مرة اخرى ويطرد من الفندق, يمرض ريكو وتزداد حالته الصحية سوءا, يبيع جو المذياع لقاء مبلغ زهيد وهو اول مبلغ يتسلمه من هذه المدينة الوعرة, المصادفة وحدها تقذف بجو وريكو الى حفل صاخب وفيها كل مايحلم به الاثنان, الجميع غائب عن الوعي تماما, يبحثون عن متع اخرى غير مالوفة تماما فلقد تسرب السأم الى نفوس هؤلاء المحتفلين جراء التكرار اليومي للمتع التي يمارسونها يوميا, يلتقي جو بشابة ثرية تكاد تكون هي الاخرى لاتعرف ماذا يدور من حولها, يثيرها منظر راعي البقر فتاخذه لتدفع له عشرين دولارا عند الصباح وهي اصلا لم تع الذي فعلته, يتوسل ريكو بان ياخذه الى فلوريدا لانه بحاجة الى الشمس وما الشمس الا شعور بالنقاء والتطهير واستعادة العافية, يتخبط جو في طرقات المدينة عله يعثر على واحدة تدفع له لكنه وبدلا من هذه الواحدة يلتقي بشاذ في احد الفنادق وفي الحجرة يطلب منه جومبلغ 75 دولارا ثمن اجرة الطريق الى فلوريدا, يرفض ذلك الشاذ اعطاء المبلغ فيضطر جو الى قتله ومن ثم سرقته, يرمي ملابس رعاة البقر الى الحاوية وكان يريد ان يقول لنا كم من الندم يشعر به ازاء الفوضى والفزع الذي لقيه, ياخذه ريكو الى الحافلة التي ستقلهما الى فلوريدا, ومان ان تصل الحافلة الى المحطة الاخيرة حيث تنعكس ظلال اشجار ميامي وطبيعتها على زجاج الحافلة جراء سطوع الشمس حتى يلفظ ريكو انفاسه الاخيرة قبل ان يلتفت جو الى ريكو ليخبره بالوصول الى المدينة التي حلم بها, الرحلة اجمل من الوصول, ذلك الحلم الذي راود مخيلتين, الحلم بالسفر لعيش افضل, الاول اندحر والثاني غادر بعيدا, ياللمدن التي تصيبنا بالذعر, مات ريكو واندحر جو ولم يعد قادرا على الحلم, ومن يدري فلربما يتخذ جو من مهنة ريكو مصدرا لعيشه ليتحول في النهاية الى راع بقر من ورق.
استطاع المخرج جون شيزلنجر ان يوفر لنا الجو المناسب بكل احداثه وتفاصيله حتى يخيل اليك انك تشم نتانة المدينة وجوها العابق بالرذيلة والموت, الطرقات واختناقاتها, الضوء الخافت الموحي بالريبة والشك, مدير التصوير ادم هوندلر استطاع ان يلقب مشاعرنا بنوره العابث والمخبوء, جون شيزنلجر استطاع بعد هذا الفيلم وقبله فيلم (حبيبتي) ان يعلن انه بيعد تماما عن جو هوليوود وانه احد مؤسسي قوانين السينما الحرة في انكلترا تضامنا مع كارل رايس ولندسي اندرسن وتوني ريتشاردسن, حصل الفيلم على أربع جوائز,افضل فيلم وافضل اخراج.