رغم الفيروس اللعين، الابن يعود إلى أمه

638

#خليك_بالبيت

رجاء خضير /

حينما تنقطع المعجزات عن زمن ما، فهذا يدلُّ على زوال الرحمة وانقطاع خيوط التواصل، التي تشدنا إلى حياة ملؤها الحنان والمحبة وبهذه نتغلّب على صعاب الدنيا وننسى همومها ولو لفترة قصيرة فما بال زمن جفّت فيه هذه الينابيع ويبست أوراق التعاون لتبقى الأوراق الصفراء تحملها الرياح أينما تشاء… أينما تشاء…

(احمد) ليكن اسم ابن الثلاثين من عمره الذي حدثني عبر الماسنجر علّني اتمكّن من إقناع والده ليسمح له بالعودة وروى قصته، قائلا: “نشأتُ بين أمي وأبي اللذين لم يقصرا عليّ بشيء وطوال سنوات كانت كل طلباتي مجابة، فأنا ابنهم الوحيد”.
وحين كبر، يواصل أحمد الشاب حديثه، أصبح اليد اليمنى لوالده في العمل وفي البيت وفي الوقت نفسه استمر متفوقا في دراسته مما خلق له زملاء وأصدقاء يحبّونه وآخرون يحسدونه ويغارون منه. وطالما حذرته والدته أن ينتبه، فالذي يغار يكون حاقداً وعلى استعداد أن يرتكب أي فعل، لكنَّه كان يجيبها بابتسامة، مؤكداً أنّه حذر.. ومع الأيام، يضيف أحمد “بدت تحذيرات أمي تصدق بعد أن تسبَّب لي بعض الطلاب بمشاكل لم يكن لي يدٌ فيها وكنت أسامحهم بعدما يطلب مني المدير الذي كان يخشى على سمعة المدرسة إدارة وطلابا”. ويكمل أحمد حديثه “ومع حدّة المشاكل، حدثت والدي بما أعانيه واصطحبني في اليوم التالي إلى المدرسة، تحدّث طويلاً مع المدير الذي نصحه أن ينقلني إلى مدرسة أخرى بعيداً عن هذه المجموعة، ولكن بعد انتهاء النصف الاول من العام الدراسي، وإلى ذلك الحين أوصاني أبي أن ابتعد عنهم كي اتقي شرهم”..
شعر أحمد بثقل التئام وبطئها بانتظار انتهاء امتحانات نصف السنة حتى ينتقل إلى مدرسة أخرى وفي إحدى الصباحات الشتوية شاهد مع الطلاب في المدرسة أفراداً من الشرطة تدخل الصفوف وتفتش الأثاث بل وحتى الطلاب. ودخلوا صفنا وفتّشوا الجميع وفي آخر المطاف نادوا على أسماء معينة كي ترافقهم إلى مركز الشرطة للتحقيق معهم، ومن بين هذه الأسماء، كان اسمه ونظر متسائلا إلى المدير الذي نظر في اتجاه آخر.
تساءل مع نفسه ترى ماذا يجري! وبأي تهمة يأخذونه إلى مركز الشرطة؟
يروي لنا أحمد ما حدث “اتصلت بوالدي فوراً وأخبرته بكل شيء ولحقني مسرعا واستفسر من الضابط عن سبب إلقاء القبض علينا وكانت الإجابة بأنّنا متهمون بعصابة تبتز النساء وتسرق و….” ولم يدعه الوالد يكمل سيل الاتهامات وأكد أنّه من المستحيل أن يرتكب ابنه هذه الجرائم وتوقّع أن يكون الإبلاغ كيديا. وعلى الفور استدعى محامياً من أصدقائه الذي أتى وبيّن لهم حسن سلوك أحمد الذي يدخل مركز شرطة لأول مرة وشهد مدير المدرسة بذلك وحينما لم تجد الشرطة ضدّه أي شكوى سابقة تم الإفراج عنه بكفالة، لتتضح الأمور بعد أيام، فقد كانت لبعض أفراد المجموعة المدرسية الذين يغارون منه سوابق أخلاقية وحين إلقاء القبض عليهم ذكروا اسمه في التحقيق للإيقاع به وتحطيم مستقبله. ولإبعاده عن المشاكل والحسد، قرّر والده أن يرسله إلى إحدى الدول التي تقيم فيها عمّته ليكمل دراسته وينجو بنفسه وامتثل أحمد لرغبة والده.
وتحمّل دموع أمه وقلقها عليه وسافر.
ويكمل أحمد “استقبلتني عمّتي في المطار، ولا أعرف لماذا شعرتُ ببرودة اللقاء، في الطريق إلى بيتها سمعت محاضرة طويلة عن الأخلاق، وعدم الاختلاط هنا بالآخرين قبل معرفتهم جيداً وأن لا اتقرب من ابنتها الوحيدة وأحسست أن حبلاً من التعليمات يلتفُّ حول رقبتي ما إن وصلت ولم أجبها وشردت متيقنا أن والدي اتخذ القرار الخاطئ لأنّه لم يكن يعرف أن الغربة وبرودتها تبلّد مشاعر غالبية المغتربين وتغيّر طباعهم وينسون لهفة لقاء أحبتهم ولا يتمكّنون من لمس معاناة الذين تركوهم خلفهم والأسباب التي تجبرهم على مغادرة البلد وانتبهتُ من شرودي وهي تنادي عليّ أن أنزل من السيارة فقد وصلنا”.
استقبلتهما شابة جميلة وبطريقة تختلف كلياً عن عمته (أمّها) وكانت تصمت حينما تنظر اليها. وبعد أن انتهوا من العشاء، قالت العمّة إنّها وجدت له مكاناً قريباً من مدرسته للإقامة فيه وأن ينسى أن له عمّة (هنا) وأضافت أنّ الجميع (هنا) يعتمدون على أنفسهم وشدّدت أن عليه الاكتفاء بالمبالغ التي سيرسلها والده.
ويعود أحمد ويكمل قصته “استأذنت من الجميع بحجة أنّني متعب من الطريق ودخلت إلى الغرفة التي أعدت لي، لم أخبر والدّي بهذه التفاصيل كي لا أزيد قلقهم عليّ وبعد ساعة تقريبا سمعت طرقاً خفيفاً على الباب، فتحتُ لأجد ابنة عمتي وابتسامة لطيفة على وجهها، وطلبت مني الاذن بالدخول، جلست بجانبي وأخبرتني أن لا أحزن من تصرفات أمها فهي كذلك منذ البداية، لا تحسبُ شيئاً لمشاعر الآخرين، ولكن قلبها طيب ! قاطعتها متسائلا وأين طيبتها تجاهي وأنا لأول مرة افترق عن أهلي؟
ودار نقاش طويل بينهما واتفقا أن يبقيا على تواصل ولكن بدون علم أمها وأكد لها أنه يحتاج لشخص مثل ابنة عمته ليتحمل ألم الغربة والفراق. وهكذا مضت أربعة أعوام عاشها بطمأنينة بمساعدة ابنة عمته والحديث الهاتفي مع والديه اللذين ساعدهما تفوقه الدراسي وقرّر أن يقدم للدراسات العليا التي تم قبوله بها.
مؤخراً، زارته عمّته في بيته لأول مرة منذ أن وصل إلى (هنا) وخشي أن تكون قد اكتشفت مساعدة ابنتها له، لكنّها أوقفت مخاوفه قائلة إنّ والده اتصل بها وأبلغها بإصابة والدته بالفيروس اللعين وطلب منها عدم إبلاغه، لكنّها قرّرت إبلاغه لأنّه ابنها الوحيد وأن يكون قربها يساعدها على المقاومة..
نزل الخبر كالصاعقة عليه ولكن خبر فتح مطار بغداد أراحه قليلا واتصل بوالده، مؤكدا أنّه عرف بإصابة والدته وأن عمته فعلت الصحيح بإخباره وأنّه سيعود إلى بغداد ليكون إلى جانب والدته..
ويكمل أحمد “بعد دقائق أعاد والدي الاتصال بي وفاجأني صوت والدتي الحنون والتعب والمتقطع بسبب صعوبة التنفس وطالبتني بعدم العودة وأقسمت بأن تسافر وتأتي لزيارتي اذا قسم الله سبحانه لها الشفاء ولم تتمكّن من مواصلة الحديث وعاد والدي للحديث معي وهو يبكي”..
أحمد مصر على العودة لأنّه يعرف جيداً أنّ المكوث مع المصاب يقوّي مناعته ومقاومته للفيروس اللعين وفي الوقت نفسه لا يريد أن يعصي أمر أبيه وأمه بعدم العودة. وطالبني باقناع والده بينما استمر هو مصليا وداعيا الله سبحانه ان يكون بعون والدته ولا يحرمه منها..
توكلت على الله وخابرت الوالد وعرّفته بنفسي وذهبت اليه، كان قد نقل أم أحمد إلى المستشفى لصعوبة حالتها وأبلغته برجاء أحمد بالسماح له بالعودة.. وبعد مناقشة قصيرة وافق..
أبلغت أحمد بقرار والده الذي أبلغني أنّ مقاومة والدته للفيروس اللعين اشتدت ما إن عرفت بقرب عودة ابنها..

النسخة الألكترونية من العدد 363

“أون لآين -6-”