رواية أبي مخنف في الطفولة.. كتاب تخيلته محفوظاً من زمن مأساة الطف

1٬209

عبد الزهرة زكي/

عثرت في بيتنا على نسخة من كتاب كان يروي واقعة الطف برواية أبي مخنف، فقرأته.

إنه واحد من الكتب التي صادفتها في طفولتي، لم أشترِ أيّاً منها، ولم أكن أعرف كيف كانت تصل إلى البيت.. لم اشغل بالي كثيرا بهذا، كنت أكتفي بسعادة عثوري على كتاب فأقرأه. لقد حصل هذا في مطلع الستينات، وكنت تلميذاً في الثالث الابتدائي
كان الكتاب، وهو من طبع وإصدار (مطبعة الغري) في النجف، يختلف تماماً عن طبيعة الكتاب المدرسي بورقة الأبيض ورسومه الملونة وحروفه الكبيرة الموضوعة بخط اليد والذي أتسلمه مطلع كل عام دراسي من مدرستي؛ ففيما أنا أتصفح كتاب (المقتل)، بورقة الأصفر وبملمسه الخشن، وأقرأه، بلغته العربية الكلاسيكية وبقاموس عصره الغريب على حدود معرفتي حينها، فإنه كان يبدو لي قديماً وكما لو كان، بموجب مخيلة الطفل، محفوظاً من زمن الواقعة نفسها في سنة ستين الهجرية التي يقابلها بالتقويم الميلادي سنة 680، وهذه معلومات متأخرة لا صلة لها بزمن قراءتي الأولى للمقتل برواية أبي مخنف.

صفرة الورق تحيل مباشرةً إلى قِدَم الكتاب وإلى تأثير الزمن عليه فيما كان الغلاف، وهو كما أذكر من ورق كارتون رقيق وبلون أصفر باهت، يكرّس هذا التصوّر، كما تكرسه لغة الكتاب التي بقيت على ما هي عليه كما وضعها مؤلفه (صاحب الرواية، أبو مخنف الأزدي) في القرن الثاني الهجري وتزيد من التفكير والاقتناع بذلك القِدَم الذي كان عليه.

لقد قرأت هذا الكتاب عشرات المرات؛ كلما تحين ذكرى عاشوراء يحضر، وتجري قراءته مرات، بعضها حين اختلي وحدي ومرات أخرى بطلب من والدتي أو أبي وهما يصغيان لي. وسوى مناسبات عاشوراء فإن الكتاب يستعاد أيضاً كلما كنت أنتهي من قراءة عدد محدود من كتب صغيرة أداورها وكانت تشكّل كلّ (مكتبة البيت). جميع هذه الكتب تقريباً كانت مستلّة من حكايات ألف ليلة وليلة ومن السير وروايات تاريخية أخرى كان من أبرزها وأشدها إمتاعاً رواية الأمير حمزة البهلوان، وهي سيرة شعبية مؤثرة. لا متعة تضاحي متعة القراءة حتى وأن بقي القارئ مضطراً فيها على أن يراوح في الكتب المتاحة نفسها.

بين هذه الكتب ظلّ كتاب (المقتل) يحظى باحترامٍ خاص هو بعضٌ من احترام شخصية الإمام الشهيد وتأثيرها الوجداني المتكرّر في حياة العراقيين. لقد أسهم تعدّد مرّات قراءته في تشكّل مبكّر للغة فُتنت بها وبفخامة التعبير بما يناسب من بلاغتها.. وأحسب أن المأساة كما قدّمها الكتاب وكما ظلت تتكرر في كل محرم هي مما أثر عميقا في بناء الوجدان العراقي وفي جوانب كثيرة من ثقافته. أفكّر أحياناً بهذا التأثير ويبدو لي أنه واضح في النصوص التي كتبتها في غمرة تراجيديا حياتنا خلال التسعينات وحصارها وفي معاناتنا بالألفينات مع العنف والإرهاب وجريان نهر الدم المتواصل.

بلاغة رواية أبي مخنف كان لها وللكتب الأخرى التي توفّرت لي في طفولتي دورها وتأثيرها في التربية اللغوية وفي التكيف مع مهارات اللغة كما تلقيتها من الكتب. لقد دفعت بلغتي كثيراً إلى النأي عن الانسياق إلى التعبير العامي الذي يبرز كثيراً في جانب طقوسي من مجالس العزاء ومناسبات أخرى كثيرة ناهيك عن الحياة اليومية وتداولها العامي. لا أعرف مقدار ما خسرت بهذا الركون إلى لغة الكتب، لكني مطمئن بحسن التصرف بما اتاحته لي تربيتي اللغوية من إمكانات أفادت أولاً وقبل أي شيء من القرآن الكريم ليأتي بعد ذلك بسنوات تأثير كتب النثر العربي.. ما زلت أذكر محاولات كثيرة لي لحفظ الخطب الآسرة التي جاءت في الكتاب (المقتل) لكل من الإمامين الحسين وابنه السجاد والسيدة زينب، وهي خطب مدهشة ومن أبرع ما قاله العرب ويتساوق فيها كبرياء الموقف برفعة البلاغة. فيما كان الإيقاع المدهش لقصيدة (خيرة الله) قد جعل منها في مقدمة النصوص الأولى التي أسرتني طفلاً بجمال لغتِها (حتى ما لم أكن أفهم معناه منها) وبرقّتها وعذوبة تدفق الإيقاع فيها:

خيرة الله من الخلق أبـي

بعد جدي فأنا ابن الخيرتين

والدي شمسٌ وأمّي قمـرٌ

فأنا الكوكـبُ وابن القمرَين

فضةٌ قد صُفيت من ذهبٍ

فأنا الفضــةُ وأبن الذهبيـن

ذهبٌ من ذهبٍ في ذهبٍ

ولجينٌ في لجيـنٍ في لجيـن

مَن له جدٌّ كجدّي في الورى

أو كشيخي فأنا ابنُ العلمين

حفظت هذه القصيدة في المرّة الأولى التي قرأتُها فيها، حفظتها كلَّها. ولعل ما علق في الذاكرة بعد كل هذه السنوات هي أبياتها الأشدّ وقعاً وإيقاعاً التي ثبتّها هنا.. (خيرة الله) كثيراً ما كانت هي من دواعي القراءة الحثيثة دائماً كلما كنت بصدد قراءة جديدة لرواية المقتل في تلك السنوات وذلك من أجل بلوغ هذه الفتنة التعبيرية الآسرة والتوقف عند جمال إيقاعها طويلاً..

في المجالس الحسينية بمحرّم لم أسمع هذه القصيدة من القرّاء، وكنت أتمنّى ذلك، لكن كنت أسمعها مرات كثيرة من (الرواديد)، وكان بعضُ مَن يكون حولي وبجانبي يسترق السمع لهذا الطفل، إعجاباً وتقديراً، وهو يردّد مع الرادود النصَّ كاملاً.

قبل أن يحلّ أحد عاشوراءات الطفولة بأيام افتقدت الكتاب، لم يكن موجوداً في البيت.. كانت مكتبتي هي واحدة من الحقائب المدرسية التي أبدلها والدي بأخرى أحدث منها، وكان كل كتبي (الخارجية) فيها. بحثت بينهن فلم يكن (المقتل) هناك. كان في البيت موضع خاص بالقرآن على رف صغير لا يتجاوز حجم الكتاب الكريم، وعبثاً فتشت فيه عن (المقتل). لم أجده، لقد اختفى فجأة.

حين يئست حزنت فلم أنم ليلتها حتى اطمأنيت إلى وعدٍ من والدي بأن الكتاب سيعود عصر اليوم التالي إليَّ. وفعلاً جاءني في اليوم التالي، وهو عائد من عمله، بنسخة أخرى منه، إنها نسخة من الطبعة نفسها كما تبدو لي الآن وأنا استذكرها، الورق ذاته والغلاف ذاته، وهي النسخة التي ظلت ترافقني لعامين انتقلنا بعدهما من البصرة إلى بغداد.

لقد انتقلنا بباص كبير إلى العاصمة جرى فيه حشر كل ما في البيت من أثاث واغرض انهمك الجميع بحملها، كنا أنا ووالدي نجلس في مقدمة الباص، لاحظت أن والدي كان سعيداً بما انصرفت إليه وانشغلت به دون الآخرين، فقد كانت في أسفل مقعدي حقيبة هي مكتبتي وهي كل ما عناني لأحافظ عليه واهتم به في الطريق إلى بغداد.