سرُّ الوشاح الأبيض

353

مقداد عبد الرضا /

تزخر مواقع التواصل الاجتماعي التي استحدث لها اسم جديد يذكر بمنصات الأسلحة والحروب, الاسم الجديد هو منصات, منصات التواصل الاجتماعي وموقع اليوتيوب يزخر كما قلت بمواد أرشيفية جمة عن ثورة الشباب في ساحة التحرير, الا يمكن جمع البعض من هذه المواد والعمل عليها لننجز فيلما رائعا يذكر بها, أعني ثورة الشباب؟ الكرة الآن في ملعب الشباب وحتى الشيوخ, ليس لنا بل للأجيال القادمة, نأمل ذلك.
هو فيلم غامض يدفعنا إلى التساؤل, ما الذي يجري في هذه القرية؟ من المسؤول عن كل مايحدث؟, فيلم الوشاح الابيض, قصة أشباح لا نراهم, او هم أصلا غير موجودين, نفزع لأفعالهم ولا نعرف من قام بها, قلقنا المتزايد هو الذي يتربص بنا ويهدّ من عزيمتنا ويوقعنا في خوف مريب, هل هو توتر بلا خاتمة أم إنَّه حكاية تاريخية لا درس لها؟ ساعتان ونصف يقودنا المخرج مايكل هينكة إلى طرقات غير معبدة ووعرة وفيها من التضاريس الكثير, غامضة وغير قابلة للنسيان, نغور في هاوية وعرة من القلق ويستحيل أن تغادر مخيلتنا, دقة في حساب الزمن وتوتر كبير تقشعر له الأبدان, هذا الفيلم ولكي تكتمل اللعبة الغامضة قام المخرج بتصويره بالابيض والاسود حتى يزيد من حيرتنا لأن الابيض والاسود فيه من الحرية في التعبير الكثير وجاءت النتائج رائعة ومتقنة بشكل أخاذ, نحن مشدودون من البداية إلى إسدال الستار على اللحظة الاخيرة، فيلم يذكر بالأعمال الدرامية الكبيرة, الذنب وعقده المستعصية التي لا يمكن حلها بسهولة أو تظل غامضة أبدا, الذنب الجماعي لفردريش درونمات وكذلك ماكس فريش, نحن في العام 1913 وفي قرية نائية جدا شمال المانيا, ظاهريا كل شىء يبدو هادئا ومستتبا, لكننا إن تعمّقنا في التفاصيل ستكون هناك شكوك عدة, شيء مختل وأناس يرزحون تحت القمع, أعمال خبث وكراهية وانتقام مجهولة, في أحد الأيام بينما كان طبيب القرية يتجول على حصانه, نراه فجأة وقد تعثّر الحصان بسلك وسقط على الارض ربما البعض يعد الفعل اعتياديا جدا, لكن اختفاء السلك مباشرة بعد الحادث بيد خفية هو الذي أثار الريبة, الطفل والابن الرضيع للبارون وجدوه لاحقا في الغابة وقد تم الاعتداء عليه بالضرب المبرّح بشكل موجع في جميع أنحاء جسده, صبي آخر يعاني من متلازمة هوجم هو الآخر وكاد من جراء ذلك الهجوم يفقد بصره, كل هذه الازمات التي لم يتم الكشف عنها إضافة إلى الأعمال الأخرى مثل تدمير محصول الملفوف على يد عامل الزراعة الحاقد لم تحل تدفع بأهل القرية إلى السؤال, ماذا يجري؟
يروى الفيلم من قبل المعلم المحال على التقاعد والطاعن في السن, هو الذي يعلن صراحة أن هذه الأحداث المؤلمة ربما يمكن أن توضّح بعض الأمور التي حدثت في هذه القرية, هل يمكن ذلك؟ ماهو الدافع من وراء تلك الأعمال غير الواضحة التي تتصف بالغموض والسرية ومن خلفها؟, نحن قلنا في البداية ربما هناك أشباح لا نراهم لكن إن تعمّقنا في الأمر سنجد غير ذلك.
يظل السؤال قائما, ما هو الدافع من تذكّر هذه الاحداث من عدم تذكرها؟ يضع المخرج الممثل بوركارت كلاوسنر في امتحان عسير, دور مركّب وصعب, لكن ليس صعبا على هذا الممثل المقتدر, بأداء مميّز ولافت يجسد ذلك الرجل الصارم الحاد الذي يتحكم ببيته بعصا من حديد ويصر على بقاء تقاليد عائلية توارثها, على العائلة أن تضع الوشاح الابيض كرمز للنقاء والابتعاد عن الفساد الذي يسود العالم, إنَّه يجبر الاولاد على لف الوشاح حول أذرعهم كي يقنعهم بطهرهم والتخلص من الآثام, الآثام التي خلّفتها النازية والدمار الذي حلّ بالمانيا واندحار هتلر.
يحكي لنا هاينكة دوافع كثيرة للبعض ممن ظل هاجسهم التدمير والقتل, مجموعة من الاطفال المختلين اجتماعيا وكما يبدو من تصرفاتهم أنهم في علاقة شاذة بعض الشيء, إنّهم شياطين يمارسون أقبح الاعمال, لكن يأتي السؤال, هل يمكن أن نعدّهم جناة؟ القابلة وأم الطفل المصاب بالمتلازمة, هي الأخرى لديها علاقة مريبة وغير طبيعية تبدو في الظاهر علاقة حب لكن نكتشف أن الطبيب يعاملها بقسوة تامة مما يدفعها إلى التلصص عليه وتراه في أبشع مشهد، إذ يحاول أن يداعب ابنته البالغة من العمر أربعة عشر عاما.
مشهد مؤثر وصادم حينما نرى الطفل انا وهو يقوم بالتجول تحت الظلام الدامي عند منتصف الليل, عن ماذا يبحث انا؟ هل يبحث عن تاريخ العائلة المريب أم عن تلك الايام السوداء كي يعلنها إلى العالم؟ يتعثر بوالده وشقيقته, إنه واحد من أجمل مشاهد الفيلم, هنا في هذا المكان بالذات ستظل الاسرار حبيسة ولا يمكن اكتشافها حتى وإن بدت قريبة للحل حينما تعلن الحرب في العام 1914, تأتي وكأنّها حالة من حالات الخلاص والنحر اليومي الدنيء لكنها مؤشرات معتلة وشاذة اجتماعيا, الحرب لا تجلب حلولا, إنها الخراب بعينه, لكنها من الممكن لها أن تجرف معها كل المرارة المتعفنة مثل مشهد تحطيم جدار في غرفة مرضى يعانون من الاختناق, أهل القرية يرتبك العدو في دواخلهم, هناك مشاهد قد تعدّ من المشاهد الكلاسيكية التي الفناها في بعض الافلام كي تهدأ من الجو الخانق الذي سيطر على مسار الاحداث, لكنّها هنا جاءت منسابة وإيقاعها صحيح, نجد مدير المدرسة يقوم بملاطفة امرأة شابة بجو من الاسترخاء والحميمية, لكن هل المخرج بنى هذا المشهد برغبة كبيرة؟ أشك, فالفيلم لا يسمح بمثل هذه الدعابات, في النهاية ليس هناك حل ولا يمكن للجنس البشري الا أن يتعذّب ويقع تحت طائلة الكثير من الأسئلة والرعب, أشياء واضحة بقدر ما هي غامضة وغير قابلة للافصاح.
فيلم الوشاح الابيض قطعة من قلق وتوتر, هل نحن بحاجة اليه؟ إنّه سؤال محير فعلا, نحن نعيش أزماتنا الداخلية التي خلقها المخربون وتركونا نصارع أيامنا التي ربما كانت في يوم من الأيام رائعة, بقي أن نعرف أن المخرج مايكل هاينكة متوقف على العمل منذ العام 2017, لم؟