سمير صبيح .. عندما احسنت الأقدار قفل القافية

585

عقيل مكي /

قصيدته تمتاز بالوضوح والبناء الزخرفي المحبوك حبكاً في النظم والإيقاع والموسيقى. فهو المتسيد بحرفنة الكبار في صياغة المفردة الشعرية المشحونة بالألم والوجع والمكابدة، فلا تجد في أشطر ماكتب بيتاً ضعيفا أو هزيلا.
تكاد أشطر وأبيات قصيدته الممسرحة أن تكون زخرفة بابلية، أو حياكة “كاشانية”، فقدرتة العالية وخزينه المعرفي مكناه من اصطياد مفرداته الشعبية التي تعج بالصورة المتلاحقة كشريط سينمائي.
شخصية عصامية
إنه الابن البار لمدرسة كاظم اسماعيل الكاطع، غير أنه خط لنفسه أسلوباً مغايراً في رسم الشكل المحدث والجديد للقصيدة الشعبية.
شخصيته العصامية ظهرت جلياً في غالبية ماكتب، لقد كان سمير صبيح عاشقاً متيماً في حب العراق، فهو الذي عجنته مصائب الحروب والهزائم والانكسارات، وحين جاء “داعش” وما رافقه من ويلات، لم يقف سمير صبيح متفرجاً، بل كان يذهب إلى سوح القتال لشحذ الهمم بالقصيدة والأهزوجة، وارتدى بدلته العسكرية جنباً إلى جنب مع رجالات الحشد والقوات الأمنية.
السيد السيستاني
شاءت الأقدار أن نجتمع ذات مرة أنا ومن كان معي بعد الفتوى المباركة بالشاعر سمير صبيح، تجاذبنا أطراف الحديث عن الشعر والشعراء، فسأل أحدنا “سمير” عن لقائه بالمرجع الأعلى السيد السستاني، سكت لبرهه ثم أردف وقال: تشرفت بلقائه المبارك وقرأت له شيئاً من شعري، وحين وصلت إلى بيت (لوما فتوتك ضاع العراق وراح)،
يقول: أوقفني سماحته وقال إنها ليست فتوتي، إنما هي فتوى أمير المؤمنين، وأشار بإصبعة إلى مرقد الإمام علي (ع).
يقول سمير: ضجّ المكان بالصلاة على محمد وآل محمد، فانتابتني نوبة من البكاء العفوي لم أشعر بها من قبل،
لقد أدرك سمير صبيح عمق هذه الفتوى المباركة فجنّد روحه وشعره منذ البداية لنصرة رجالات الحشد الأبطال.
وليس غريباً أن نرى ابن المرجع الأعلى محمد رضا يتوسط جمع المشيعين إلى مثواه الأخير.. إنها رسالة واضحة
وصريحة أن هذا الفتى الأسمر أخلص ونجح في إتمام مهمته العظيمة لهذا الوطن الكبير.
فارس الإيجاز
عرفته شاعراً، في مطلع عام ١٩٩٥ كتب نصوصاً مهمة ستبقى عالقة في ذاكرة محبيه، فهو الفارس في الإيجاز والتكثيف والكناية والاستعارة والتشبية في إطار الصورة الشعرية، كسر بها الجمود في لغة القصيدة التي كانت تستعير الجمل والكلمات المبهمة التي تحتاج إلى أكثر من تفسير محلقاً في لغة تكاد تكون بيضاء غير مبهمة، استعمل فيها التراص والتكثيف في الصورة الفوتوغرافية التي أبهرت الوسط الشعري الذي تابع ما يكتبه بشغف وترقب، لقد أوجد سمير صبيح لنفسه مكانة كبيرة بين أهرام الشعر كعريان السيد خلف وكاظم اسماعيل الكاطع. فكتب وقال:
إذا جنحك عله لتشوف حجم زغير
الغابة شكد جبيرة بعود تشعلها
وتناول في شعره الوجدانيات، لكن بطريقة مغايرة وغير مستهلكة فيقول:
ولانفسي دنت حطلي الطمع ماعون
كلي أخذ شتريد وكلت لا مشكور
لقد وظّف سمير صبيح بعض قصص القرآن الكريم فأخذ منها تضميناً من سورة يوسف حيث قال:
ذبني ابير بيده وكال أكلني الذيب
ورسم للذيب صورة وجثتي بحلكه
وعن الوطن كتب مئات القصائد، لكن بوجع جنوبي، وهو الذي عاش مرارة الحروب والحصارات فقال:
شعري فك عينه لكه اكباله العراق
وبندقية وسفري وحب العراق
حب له وحدة والمواعيد التحاق
لقد عشت قريباً منه ومن الشاعر رحيم المالكي، كانا يرتبطان برباط المحبة والشعر، أجاد المالكي اللعب على التفنن في فن الأبوذية فحدث فيها بالأسلوب والتصوير
والوزن والقافية، أما سمير صبيح فكان فارس المنصة بلامنازع، لأنه قدم شعراً يفيض عذوبة وألقاً وجمالا، كتب في كل ضروب وأوزان الشعر: كالتجليبة والنصاري والأبوذية والزهيري.
سمير صبيح قلب المعادلة وقلب طاولة الشعر المكرر والمستهلك في الصياغة والبناء واختط أسلوباً فريداً لم يكن مألوفاً، فهو الذي يقول:
سحب سيفه الزمن هل من منازل صاح
أعزل ماخفت والزمن نازلته
مالحته أبد لكن ترسني اجروح
بس عندي المهم ماعفته قاتلته
في وجدان الشعراء
لقد تأثرت به جمهرة كبيرة من الشعراء الذين تسللت إلى قصائدهم روحيته وحتى أجراسه المموسقة.
ذات مرة طلب مني شاعر شاب، هو الآن شاعر منصة معروف، أن أسمع شعره فقلت له إقرأ، فقرأ لي أبياتاً جميلة من الشعر الشعبي العراقي كانت فعلا قصائد جميلة، لكنها ترتدي ثوب وعباءة سمير صبيح، فقال لي ماذا تقول يا أستاذ؟ فقلت له: سمير صبيح جنّي متلبس فيك، فأردف قائلا: اي والله ولا أعرف كيف سيخرج هذا الجني الجميل مني.
نعم، لقد تلبس سمير صبيح في أسلوب ووجدان العشرات من الشعراء الشباب لأنهم تأثروا به وبطريقته في النظم والكتابة.
سمير صبيح ظاهرة فنية وقامة شعرية كتبتا بالدم هموم وأحاسيس الناس، لم يقف على أبواب السلاطين للمدح أو الاستجداء، بل كان غني النفس، احترم شعره واحترم ذاته، فصار علامة للرقيّ عند جمهرة كبيرة من محبيه، كتب للعراق وللحب والحرب وللحشد المقدس، فكان فارساً من فرسان الإعجاز الشعري.
وكان تاريخه هو قصيدته الاخيرة التي سطرها بمداد من ذهب احسن قفل قافيتها