سيتا هاكوبيان عراقيةٌ حتى رفيف العباءات

987

أحمد هاتف  /

على  أطراف  أصابع السبعينات، في الزمن الأبيض والأسود ربما، “وربما لم يك كذلك غير أن ألوان رأسي شاخت”.. شاهدت سيتا هاكوبيان.. كانت قد بزغت “تحكي”، تمثل دون أن يرتدي صوتها لحناً آخر.. كانت بسيطة مثل جريان.. ربما مثل ضوء عصرية عادية في مقهى يطل على دجلة، “كان دجلة فتياً مثل لحن لسمير بغدادي”.. كانت “بهيدة” تأكل أسود روحي.. وتنتج يوماً طازجاً مثل حليب القمر.. كانت “زغيرة جنت وانت زغيرَون” تنام معي.. وتسرق بعض أحلامي.. لم أكُ يوماً أتخيل أن هذه اليوكالبتوسة ستظلل
نسيت أن أقول كان المسلسل الذي مثلت فيه يحمل عنوان “الوجه الآخر” قاسمها البطولة الأقرب للقلب حسن حسني.. والدافئة الطيبة سوسن شكري.. بعد زمن كنت هناك في بيت أحلامي الواسع “معهد الفنون الجميلة”، كانت عتبة الثمانين قد ارتقت إلى قلب التقويم.. كنا كومة مهرجين في حقل الطموح.. أطولنا صوتا كان “فارس طعمة التميمي.. ناجي عطية.. أمل حسن.. وحمودي عبد علي”، كان حقلاً من ضوء يثب بروحي.. فأجنح للوقوف على الكتب لأبدو أطول من قامتي الحقة.. ذات يوم دافئ من أوائل العام.. دخلت “سيتا هاكوبيان ” بأمومتها وخلقها النبي.. وابتسامتها التي تشبه “سرب أمهات”.. تقدم الجليل كامل العزاوي رئيس قسم السينما ليعرفنا على سيتا هاكوبيان، الزميلة الجديدة.. جلست بهدوء، ومذ تلك اللحظة “اتسعت أرض القاعة.. صارت حقلاً من قطن ولؤلؤ” وصرنا أكبر القاعات كلها.. فنحن نمتلك سيتا.. فمن سيصدق..
تعارفنا دون إسقاط المسافات.. فهي في منتصف الأحلام ونحن في بدء الغفوة… / يا إلهي هل كنت ترى ذاك الفصل من السرور؟… كنت وريث الكتب القادم من بابل وماتزال في ملامحي بعض حياءات الدرابين.. وسمرة خشب الأبواب.. حتى أن التماعة نهر الحلة لم تزل تتجول في عيوني.. لذا كان صوتي رصيناً وانا أتكئ على “رفائيل البرتي وسان جون بيرس وايف بنفوا..”.. كنت شغوفا بـ “جنكيز إيتماتوف” وبعض دستويفسكي.. والكثير من ملح “غائب طعمة فرمان”.. كنت أقرأ لأكبر.. وكان صوتي يتسع في تلك القاعة.. كانت تلك الأم الصغيرة تراقب نمو شغفي.. وتكررت الأسئلة.. وتكررت استعارات كتبي.. وهكذا لم يمض شهري الثاني في تلك القاعة حتى صارت تناديني “حمودي” وصرت أناديها “أمي”… كانت تراقب شغفي في القراءة فتبتسم.. وتراقب شغفي بالشرب فتعنفني.. لم أكُ أظن أن هذه الهادئة تملك كل هذا الوعي.. كنا نتجول في ساحة المعهد نناقش أغنياتها وأفلام تلك الأيام وكتبها وواقعها السياسي.. وكان لها في كل مفصل ماتقوله… كيف لا وهي من أدارت رؤوس الملايين في كل ما أنجزته من أغنيات.. كنت أنتمي تماماً لـ ” نذر في الماء” و “بهيدة”.. وكانت هي في هاتين الأغنيتين سيتا هاكوبيان.. العراقية جداً.. تلك التي غسلت جسدها الطفل مياه شط العرب.. وسمعت شناشيل أحياء البصرة القديمة صيحتها الأولى.. بصرية جداً.. وبغدادية جداً.. و”عراقية حتى رفيف العباءات في صوتها”. كانت “الولد” تميمة العاشقات.. و”شوكي” نهر في قلب الذاكرة.. و”ما اندل دلوني” سماء تشرق منها محبتها المتفردة…
كيف لي أن أكتب سيتا هاكوبيان دون أن أفرش دموعي وأغرق لتنبض تلك الأيام… أيام الظلال الحلوة.. والمطر والمحاولات الأولى في كتابة السيناريو.. كيف لي أن أرسم بطباشير الذاكرة مزاحنا المتواصل برفقة فارس طعمة وناجي عطية وسيتا.. كيف لي أن أصف تلك الأم التي دخلت ذاك اليوم وهي ترتدي زيّها الجامعي الموحد وخرجت وهي ترتدي ذاك الزي.. فرغم شهرتها الواسعة لم تك سيتا سوى تلك الطالبة الملتزمة طيلة تلك السنوات.. لم تك غير تلك الأم التي أسمعها تغني فقط حين يقلني برفقتها الكبير عماد بهجت في طريقنا المشترك نحو الإذاعة والتلفزيون.. موقع عملنا المشترك.. في تلك السيارة يشغل عماد الموسيقى ويقول لها “تمرني”، حينذاك كنت أراقبها تغني.. وتعيد وتصحح.. وتحاول.. كنت أراقب كيف تستقر نبرتها على سلَّم النغمة برزانة ومعرفة واقتدار… كانت سيتا أخرى حين تغني.. تعبر ذاك الخط الفاصل بين تلك الأم والمغنية.. لتتحول إلى بنت مبللة بالأحاسيس.. تمطر جمالاً.. تنكسر وتستقيم.. وتتراقص.. وتطير.. وتتجلى وتعبر المسافات.. كان عاشقها وزوجها عماد بهجت يراقبها كما يراقب العطش تكور غيمة… كان أبي الذي تعلمت منه الكثير…
يا إلهي “امنحني الوقت لأرى.. امنحني الهواء لأصرخ.. امنحني التكرار لأملأ روحي بالملح والغناء والبياض.. فمن أجل هذي الأم أنجبت الآلهة نعمة الغناء.. ومن أجلها فقط كان دجلة ينهض كل مساء ليسامر ألحانها ويدرك كيف تجسد الأرض سحر العراق…” نعم.. تماماً.. لبغداد التي ودّعتها “كما ودّعت ابن زريق البغدادي” دمعة.. وأسى يتصارخ كل ليلة بين سرّة الجسر وعيون الكرخ.. مستعيداً صوتها.. ذاك الذي يشبه رفرفة النوارس على جسر الأحرار… لست متطرفاً.. أنا ابن يغرق في روج أنهار ذاكرته… ويحاول الوصول إلى الصورة الكاملة… في الدوحة فتحت الباب لتعانقني أمي.. وتخلع عني ثوب غرباتي الأولى.. فقط يومها أدركت كم كان الله رحيماً.. كم كانت الأيام طيبة… حين توقفت سيتا عن الغناء.. أدركت أن المحبة غادرت هذي الأرض لأن الصلوات صوتها.. وماتكرار الليل والنهار سوى وهم.. لأن النهار رفقتها والليل صوتها.. والفجريات انتظار الرحمة في طلّة أمي….
سيتا.. الزمن خشب مرٌّ يا حياتنا التامة.. لن ينهض سوى حين يعرج صوتك… ستظل الأنهار مغلقة والسماء غبار جاف.. حتى يمطرنا القدر بمثلك.. يا إلهي.. لماذا اللغة جافة إلى هذا الحد.. حتى أنها لاترقص ولاتطير… سأظل بانتظار لغة تطير لأكتبك أيتها الأم الطويلة حتى بكاء الأمل.