سيرجييه باردجانوف ظلال الأجداد المنسيين

393

مقداد عبد الرضا /

يقول رسول حمزاتوف: “غنِّ إذا جاء الربيع.. واحكِ حكايا إن حل الشتاء.” الحكاية روح المجتمعات, الحكاية هي الخارطة التي يستند إليها عمود البلد, هذه الأعمدة تكاد تكون غائبة تماماً عن أعيننا, عن ذكرياتنا، وحتى عن الحاضر، إذ لم نعد نشاهد الحكاية على شكل صور تترى إلى قلوبنا ونتعلم منها, البعض من قوانين العالم غيرتها الحكاية, الكثير من الحب ارتفع بسبب الحكاية, هم الأطفال الذين ترعرعوا في ظل الحكاية, لا توجد في بلادنا حكاية, هل هناك من يجيب عن هذا اللغز المحيِّر؟
على الرغم من كل هذا العذاب, اهتم به الكثير, ثمة جمعية مناصرة له في أوروبا والاتحاد السوفيتي نفسه, أندريه تاركوفسكي, وفكتور شايكوفسكي, وعدد من الشخصيات المثقفة. لقد قاموا بدور الوساطة بشتى الوسائل, تناهى له ذلك, لكنه أدرك بحدسه أنه لن يفرج عنه. في العام 1966 بدأ باردجانوف تصوير فلمه (فنون كييف)، لكن الأوامر سرعان ما صدرت بإيقاف المشروع, جُرد من حقوقه كلها وأوقف عن العمل لسنوات عدة, في النهاية يجد نفسه مرمياً خارج الستار(يأخذ الزمن دورته, كيف روّع ستالين العبقري آيزنشتاين وأعاقه عن العمل سنوات عدة). لاشك في أنه الطريق الذي ينتهي إلى اليأس, لكن تلك مفردة ظل ينأى بعيداً عنها.
يقول :
“مازلتم تتمتعون بقصور عال في فهم جهدي الإبداعي, أنتم وطاقم مؤسستكم أجبرتموني على مغادرة ستديو كييف والسينما بشكل عام, أشكر لكم قسوتكم ووحشية ما قمتم به, والمراقبة الدقيقة طلية الثمانية عشر عاماً التي لم أعمل خلالها سوى خمس سنوات.”
في العام 1966 يغادر إلى أرمينيا, وينفذ (سايات نوفا), الذي أطلق عليه فيما بعد اسم (لون الرمّان), توقف العمل في الفلم مرات عدة, لكنه انشغل بتصوير فلم قصير(آكوب هوفنتيان)، عن فنان من القرن التاسع عشر عاش في تبليسي. كانت نشاطات باردجانوف في أرمينيا تبعث على إعطاء تأثير كبير ومنعش لجو الثقافة القومية, لقد استطاع أن يجمع حوله الكثير من المبدعين حيث الحلقات الثقافية التي كانت تنظم آنذاك في العام 1968.
وفي ستديو (أرمينفلم) أكمل مشروعه لفلم (لون الرمّان) حيث الروح العالية التي سادت( ظلال الأجداد المنسيين), وبهذا يكون قد وصل إلى مرحلة التفوق, لكنهم كانوا بالمرصاد له أيضاً, دائرة (كوسنكو) تطلب إعادة أجزاء من الفلم بحجة الشكل والتعارض الشديد مع الحقائق التاريخية, حتى لقد وُجِّه إليه لوم شديد لاختياره أراضي قاحلة للتصوير.. بدوره أعلن هو الحرب .
“إن ماقمتم به هو بمثابة إرباك وتدمير لفلمي (سايات نوفا) بتهمة التعارض مع المشاعر القومية والصور الجميلة المنبعثة منه بوسائل سينمائية, لقد بدأت برسم الصور القومية المصغرة، لم أحجبها عن المعمار, وحافظت بالتالي على الأصل الفولكلوري لموسيقى الفيلم.” ردٌّ مقتضب جاء من (كوسنكو): يجب إعادة تصوير الفيلم مرة أخرى.
وبكثير من الجزع والصبر أعاد باردجانوف تصوير الفيلم مرة أخرى، لكن النسخة الأرمينية ظلت هي الأصل, منذ أن فتحت الكاميرا عينها في زمن الإخوة (لوميير) لم يدرك إنسان مثلما أدرك باردجانوف كيفية تحويل المقروء إلى صور ومشاهد فلمية.
لقد حدث ذلك في(سايات نوفا) أو(لون الرمّان) الذي قلب الأفكار والانطباعات رأساً على عقب في فن السينما, الرواية والإثارة, وهما الأساس في عمله, استطاع أن يحركهما معطياً إياهما تعبيراً رائعاً, ولاسيما القصيدة المغناة, بدت كلوحة زيتيه وضعت أمام عيني المتلقي لتجليها من الأدران.
وعلى الرغم من الإمكانيات المحدودة للفلم فقد نفذ إلى عقل المتلقي والنقاد والمهتمين بصناعة السينما واعتبروه ظاهرة فريدة. في العام 1974 قرر القيام بمهمة جديدة في ستديو(أرمنينفلم), هي تصوير فلم (معجزة في أورنز)، وقد أهدى إنجازه هذا إلى الكاتب الدنماركي(هانس كرستيان اندرسن), لكنه يمرض ويؤجل التصوير ويغادر إلى أوكرانيا حيث قضى فترة نقاهة, بعدها بأشهر حكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات, لقد تبدلت حياته تماماً, انقلبت نظرته إلى العالم, ابتدع في سجنه ملصقات سحرية واشتغل في صنع الفخار واستطاع أن يعلم السجناء الرسم, كتب إلى أخته يقول :
“علي أن أظل هكذا واقفاً في مكاني أراوح, هاهي المقادير تقذف بي إلى السجن مرة أخرى, إنني متألم من كل الافتراءات التي ألصقت بي, إنها لقسوة, يسكن معي سجناء منذ زمن بعيد, قتلة, مدمنو مخدرات, توجد هنا آلاف القضايا المروعة, ماذا يتوجب على أن أفعل في هذا المكان الموحش, لن أرجع إلى السينما, لقد حطمتني, من يهتم بي أنا المعدم؟ في كل لحظة أتعرض للاستفزاز من قبل متحدث يفهم نواياي بشكل خاطئ وأنا سعيد بذلك, إذا كانت هناك ملاحظات عن أفلامي فهذا يعني أنني أجيد الضرب على إيقاع الحياة برمتها.”
توسلات كبيرة من قبل (ليلي بليك)، أخت زوجته، وكذلك صديقه وأحد معجبيه الشاعر العظيم لوي آراكون, وقد نجحا أخيراً في أخذ إذن مباشر من ليونيد بريجنيف بالإفراج عنه عام 1977, وقبل الموعد المقرر للإفراج, وضع تحت المراقبة المشددة, استقر في تبليسي دون عمل, لكن سرعان ما ألصقت به تهمة أخرى قضى بسببها أشهراً عدة بانتظار المحاكمة, لقد وجد المحلّفون أنه غير مذنب، لكنه مدان بنشاط غير مؤثر..