سيرجييه باردجانوف ظلال الأجداد المنسيين

315

مقداد عبد الرضا /

الوصول إلى جائزة الأوسكار ليس بالأمر الهين، ولا يتم إلا بجهد كبير وعلاقات كبيرة ومداهنات كبيرة وسياسة محنية الرأس, ففي الخفايا ثمة كثير, لعل المعلن قليل جداً, نسمع بين حين وآخر عن وصول أحد الأفلام العربية والعراقية تحديداً إلى جائزة أفضل فيلم أجنبي, هذا رائع حقاً ومفرح إن لم تتخلله العواطف والاندفاع المرتبك, شروط الأكاديمية فيها صعوبات كثيرة كما نوّهنا، والأمر يحتاج إلى تأنٍ وصبر وتفهم.
في عام 1983، وبتدخل من شنكلايا وسوفكو تاجيورلي، وكذلك رجاء من إدوارد شيفرنادزه، السكرتير الأول للحزب الشيوعي في تبليسي، سُمح له بالعودة إلى السينما. يطل عهد (البيروسترويكا) إذ انطوت صفحة الجدار القاتم التي مضى عليها سبعون عاماً، وجاءت أخرى علها تنفع في مسيرته ويكون ذا شأن, لكنهم أغفلوه مرة أخرى. عام 1985 أقام أول معرض له في دار السينما في تبليسي, حيث عرضت له ملصقات كرافيك, ولوحات ولعب, وأعمال سيراميك, وقد نجح المعرض نجاحاً كبيراً على الرغم من محدودية الزوار. أما المعرض الثاني الذي أقامه عام 1991 فقد كان علامة فارقة في تاريخ هذا المبدع الكبير, لقد أوجد عالمه الخاص.
-إذا لم يكن هذا العالم أسطورة, فالعالم والأسطورة ركنان أساسيان في أحاسيسنا, مثل وردة وثمرة لا تسمو واحدة دون الأخرى, الأسطورة إدراك (هوميروس) للعالم ببصيرة نافذة, رهن عينيه ومضى يتطلع ببصيرته, تبدأ الأسطورة وتنمو باستقامة روحية في إطار حسى أخاذ.
بالجوهر المكتمل، وبكل حياته المضطربة، يخلق باردجانوف الأسطورة من طين الأرض, (ظلال الأجداد المنسيين) بقايا آثار سحقت وماتت تلقائياً في ضمائرنا, لكنه يمارس سحره الخاص ليعيد تكوين الميت بألق رائع, إنه لأمر سهل أن يبقى الأجداد يمارسون حياتهم معنا, على الرغم من سفرهم البعيد. إن الطبوغرافيا والزمن في أسطورة باردجانوف هما استثناء صعب للغاية, حياة بين العدم وإعادة التشكيل, برزخ بين الحلم واليقظة, والأبطال جميعاً ممثلين كانوا أم ملصقات, كالمخلوقات النائمة في فضاء رحب لا يحده شيء, كل أسطورة تحمل خصوصيتها المتميزة, فالخيال التشكيلي الإغريقي لا علاقة له بالهندي, ولا علاقة للخيال الهندي بالأزتك, ولا للأخير علاقة بالفرعوني, هذا كله جعل باردجانوف يكسر طوق المألوف في الأسطورة الأرمينية ويمازجه مع الأساطير الأخرى لينجز هارمونياً رائعاً وكبيراً.
منذ عهد (سايات نوفا) لم تعرف الثقافة أحداً استطاع أن يشبع جو المعرفة, باردجانوف وحده فعل ذلك, إذ استطاع أن يخلق أنموذجاً مضاءً بعبقريته لنماذج أرمينية وأوكرانية وجورجية وتركية ليصبها في بوتقة السينما. أعمال مثل (معجزة في أودنس) و( أغنية رفيق إيكور) أضافت إنجازاً مهما للسينما الروسية والدنماركية, لكنهما لم يعطياه الفرصة الكاملة للإبداع مثلما فعل في (ينبوع بقجه سراي) و(لارا الجميلة) و(كنوز ايجمازن) ثم (داود وسوزان). بعد سبعة عشر عاماً من (سايات نوفا), وتحديداً في عام 1985 ظهر عمل باردجانوف الجديد (أسطورة قلعة سورام) الذي صوره في مشاهد قصيرة, وفي عام 1987 أنجز آخر أفلامه (ashik greeib) في ستديو كروزبا وحقق فيه نجاحاً منقطع النظير، إذ عُدَّ من أهم الأفلام في تاريخ السينما.
بعد تجاوزه الستين يحلق أول مرة إلى باريس, وإسطنبول, ونيويورك وروتردام , وفينيسيا, ويحط أخيراً في يريفان. مُنح فرصة أخرى للعمل في ستديو (أرمينفلم) لكن الهمة كانت قد غادرته, بدأ التصوير في فلم الاعتراف بإمكانيات ضخمة وجو مملوء بالنقاء, لكن الزمن مميت، كان له بالمرصاد على بعد ثلاثمئة متر من موقع التصوير, أصدقاؤه وعصاه التي يتوكأ عليها, يلامس الأشياء ببطء, لا شيء أكثر من (نعم) و(لا) هما مفتاح الحياة التي بدأت تتسرب, تمتمات, ربما أراد أن يقول لنا وداعاً، لكن زمننا رهن أذنيه فلم نسمعه, إنه يقف في البرزخ, جسده مسجى في جب العظماء في أرمينيا.
في عام 1991 افتُتح متحف باردجانوف في مدينة يريفان, احتوى على نفائس روحه المحلقة, أسطورته الخاصة التي هي شاهد على عبقرية هذا المتألم. بقي أن نعرف أن هذا العبقري ظل موجوعاً حتى في حياته الخاصة، ففي عام 1950 تزوج في موسكو من زوجته الأولى نيغيار كريموفا، المنحدرة من عائلة تتار مسلمة، اعتنقت المسيحية الأرثوذكسية الشرقية لتتزوج باراجانوف, إلا أنها قُتلت على يد أقاربها بسبب تغيير دينها. إثر هذه الحادثة غادر باراجانوف روسيا إلى كييف، أوكرانيا، حيث أنتج بعض الأفلام الوثائقية (الأيدي الذهبية، ناتاليا أزهفي، دومكا) والسردية (أندرياش- مبنية على قصة خيالية كتبها الكاتب المولدوفي أميلي بوركوف)، الرابسودي الأوكراني (ميلودراما في زمن الحرب)، و(زهرة على الحجر- فيلم حول طائفة دينية تتسلل إلى مدينة تنقيب في حوض دونيت).
تعلم باراجانوف الأوكرانية و تزوج زوجته الثانية سفيتلانا افانيفنا شارباتيوك، المعروفة أيضاً باسم سفيتلانا شارباتيوك أو سفيتلانا باراجانوف في عام 1956 وأنجبا ابنهما سوران باراجانوف عام 1958.