شاكر الأنباري: الرواية أكثر جرأة في التعبير عن التحولات الكبرى

408

حوار : علي السومري – تصوير : يوسف مهدي/

قاصٌ وروائيٌ وصحفي، ولد في محافظة الأنبار عام 1957، حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة السليمانية العراقية عام 1979، كتب في صحف عربية وعراقية عديدة، وتولى مواقع وظيفية في الصحافة الثقافية في بغداد، منها رئيس تحرير مجلة (تواصل) المهتمة بالإعلام.
إنه شاكر الأنباري، الكاتب والروائي الذي يرى أن الثقافة في العراق لعبت دوراً محورياً في تشكيل الهوية الوطنية، وأن الكتابة السردية تسير في طريقها الصحيح.
هو عضو اتحاد الكتّاب العرب، واتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين، ونقابة الصحافيين العراقيين. يقيم اليوم في كوبنهاغن عاصمة مملكة الدانمارك التي وصلها عام 1985، عاش في سورية من عام 1995 حتى عام 2003، ليعود إلى بلاده بعد سقوط الديكتاتورية وبقي فيها ما يقارب العشر سنوات، عاد بعدها إلى الدانمارك مرة أخرى، لكن زياراته إلى الوطن لم تنقطع.
لـ (الأنباري) أكثر من عشرين كتاباً ما بين القصة والرواية والترجمة والتأليف، إذ أصدر مجاميع قصصية عدة هي: (ثمار البلوط)، و(شجرة العائلة)، و(أنا والمجنون)، و(تشكيل شامي)، (أهواء غامضة). أما في الرواية فأصدر أكثر من عشر روايات: (الكلمات الساحرات)، و(ألواح)، و(موطن الأسرار)، و(كتاب ياسمين)، و(ليالي الكاكا)، و(الراقصة)، و(بلاد سعيدة)، و(نجمة البتاويين)، و(أنا ونامق سبنسر)، و(مسامرات جسر بزيبز)، و(أقسى الشهور).
كما ترجم إلى العربية كتاب (المريخ جنّة)، وهو مجموعة قصص للكاتب الأميركي ري براد بري، إضافة لتأليفه عدداً من الكتب مثل: (ثقافة ضد العنف)، و(دولة على مفترق، العراق بين عام 2003 وعام 2006)، و(أسوار أوروك)، و(تلخيص كتاب الديمقراطية التوافقية)، و(مثل برق خبا- سيرة ثقافية لكاتب جوال).
ولتسليط الضوء على تجربته الإبداعية ومشروعه السردي، كان لنا معه هذا الحوار:
سحر الكلام
• لماذا اخترت السرد دون كل الفنون للتعبير عن ذاتك وآلامها؟
– لأنني نشأت في قرية فراتية لم تكن فيها كهرباء، تمتهن الفلاحة، وقليلة التواصل مع المدينة، تشيع فيها الحكايات الشفاهية والمرويات الخرافية للتسلية وقضاء الليالي الطوال. لقد تشبعت منذ الطفولة بفن سرد الحكايات وما يرافقها من خيال مجنح وسحر القول ومغامرات العقل البشري المحكوم بالعزلة، قادتني إلى محبة فن السرد، قصة ورواية، وكأنني استرجع بذلك طفولة مفقودة، وبراءة وجودية، وأمكنة زال بعضها منذ سنين طوال، ولاسيما أن السرد هو رديف للعزلة ومغامرة الخيال للسفر إلى عوالم خارج الزمان والمكان.
• هل أنت مع من يقول إن هذا الزمن زمن الرواية لا الشعر؟
– أعتقد أن الفنون جميعاً باقية لكونها حاجة بشرية، سواء أكانت شعرية، أم سردية، أم بصرية، كالتشكيل والسينما والمسرح، لكننا في العراق مررنا بتحولات دراماتيكية خلال العقود الأخيرة على صعيد المجتمع، وبنى الأمكنة، والهزات الفكرية والجمالية، وتشظي روح الفرد المرادف لكل ذلك، وهذا ما يعجز الشعر عن التعبير عنه ومقاربته، عكس الرواية، فهي تمتلك إضاءة أوسع، ونفاذاً أكثر جرأة للتعبير عن تحولات ضخمة مثل تلك التحولات. الرواية -في رأيي- تعبير جماعي عن إشكالات مجتمعية وجودية، في حين يظل الشعر أقرب إلى الهواجس الفردية، من هنا سادت الرواية في العقود الأخيرة داخل العراق خاصة، لأن هناك الكثير الذي ينبغي أن يقال.
• ما الذي منحته الغربة لك؟ وما الذي سلبته منك؟
– منحتي الغربة الاحتكاك مع ثقافات أجنبية، ولغات فتحت لي نوافذ إضافية للإطلالة على عالم متغير ومتصارع، وشحنت نصي بحرية شبه كاملة ابتعدت كثيراً عن الرقيب الداخلي والمفاهيم الجمعية التي تخنق الفرد. كما وسّعت من أفق الخيال عندي، لأن الغربة تنوع مكاني، وقبول بالآخر المختلف، وضبط العدسة بصفاء أكثر كونها توفر للكاتب مسافة كافية كي يرى بوضوح، ويتتبع خيوط الأحداث، ويسترجع الشوارع والمدن والطبيعة وملامح البشر الذين يكتب عنهم. في حين يشعر الكاتب المغترب بأنه غير مستقر وغير منتم بعمق إلى أي من الأمكنة التي يستقر فيها، ويبقى الوطن الأم معلقاً على ظهره حتى وفاته، ويصعب عليه الكف عن الاستدارة إلى الوراء، مكاناً وزماناً، عدا عن الحنين الأبدي لأماكن الطفولة والشباب والصداقات القديمة ولهجة المكان ونمط الحوارات المحلية اليومية، فالاحتكاك بالبشر والأحداث من الضرورات المهمة لتجربة أي كاتب مهما كان الفن الابداعي الذي يمارسه. شخصياً أعتبر نفسي نصف مغترب ونصف مقيم لأنني عايشت أهم التحولات في العراق بعد عام 2003 حين عدت إلى الوطن وعملت وسكنت في بغداد واندمجت -بنسبة ما- مع الوسطين الثقافي والإعلامي طوال نحو عشر سنوات، كل هذا جعلني أقرب إلى تفاصيل الوطن اليومية من مثقفي الاغتراب غيري.
الهوية الحضارية
• كيف تقيّم السردية العراقية اليوم، وهل يمكن القول بأنها وصلت إلى العالمية؟
– الثقافة في العراق لعبت دوراً محورياً في تشكيل الهوية الوطنية، والعراق دون تنوع تلك الثقافة ينتهي ليكون جزراً منعزلة دينياً ومذهبياً وقومياً، ونعني بالثقافة هنا الشعر، والقصة، والرواية، والغناء، والشعر الشعبي، والمسرح، والسينما، والفولكلور، وغير ذلك من حقول، فهي بمجموعها منحت العراق هويته وخصوصيته الحضارية. وقد شهدت الساحة الثقافية في الآونة الأخيرة انفجاراً هائلاً في الكتابة السردية تعبيراً عن حاجة المثقف إلى قول كل شيء عن الأحداث التي مر بها وطنه في العقود الماضية، وهي أحداث ضخمة صاعقة اشتملت على حروب واحتلال وصراعات دينية وقومية ومذهبية جاءت نتيجة انزياح القامع الديكتاتور عن حقيقة الواقع وتناقضاته وصراعاته، لذلك جاءت الرواية ضرورة لتجسيد كل ذلك فنياً، والتجسيد الفني حمل الى القارئ تنوعات وتباينات في التعبير والأساليب والرؤى، وهو أمر طبيعي بعد أن امتلك الكاتب حرية الخوض في كل شيء. كان هناك كتاب استطاعوا إنجاز نصوص عالمية في رؤاها وصدقها وسعة أفقها ونمذجتها للهم الإنساني، ما جعلها تشيع خارج المحلية وتصبح مؤثرة عربياً وعالمياً، والزمن -كما نعرف- كفيل بغربلة ما هو أصيل عما هو سائد ومفتعل وشكلي ومقلد، لكن الكتابة السردية تسير في طريقها الصحيح وتحقق كل يوم إنجازات لا يمكن تجاهلها.
• دائماً ما يلام النقاد بأنهم عاجزون عن اللحاق بما ينتج سرداً وشعراً، ما رأيك؟
– الإبداع دائماً يتقدم على النقد في كل ثقافات العالم، لأن النقد الأدبي يرتكز على المبدع بكافة تلاوينه، والانفجار الإبداعي العراقي في الشعر والرواية لا يخرج عن هذا الإطار، علماً أن هناك سهولة في النشر، وبوجود دور نشر تتبنى الطباعة على نفقة الكاتب يمكن لأي شخص أن يدفع بنتاجه إلى السوق، ونحن لحد الآن لا نمتلك مؤسسات نقدية تراقب هذه الظاهرة وتلاحق النصوص الجديدة والتجارب المكتملة أو التي في طريقها إلى الاكتمال، لأن النقد الرصين والجاد بحاجة إلى فضاء أكاديمي ومؤسساتي مستقر، وهذا غير متحقق لدينا كوننا نمر بحالة فوضى، لا على صعيد الأدب فقط، بل في كل حياتنا، لحد الآن لا تمثل الثقافة العراقية سوى هامش بسيط من حاجات المجتمع، والفرد عموماً منشغل بمشاكله اليومية والمعيشية أكثر مما هو منشغل بغذائه الروحي، ومثل واقع كهذا لا ينتج نقداً رصيناً يواكب الحاجة الروحية للأدب والفن.
• كيف تقيّم موقف المثقفين من الاحتجاجات، هل كان موقفهم مؤثراً أم هامشياً؟
– شخصياً شكلت لي احتجاجات الشباب في تشرين، وكل الاحتجاجات السابقة، روحاً حية لشعب لا يريد الاستكانة لخزعبلات السياسيين المنشغلين بمصالحهم الفئوية والشخصية، فروح تشرين تعبير جلي عن روح العراق الواحد المعافى ذي البعد الحضاري بتنوعاته. العراق الذي صنع مدنية وحضارات ولغات وملاحم طوال آلاف السنين، والثقافة الوطنية التي تسير في هذا الاتجاه لا يمكنها أن تبتعد عن روح التمرد الشبابي وتوقه لخلق واقع بديل يحترم كرامة الانسان مهما كان دينه وقوميته وانتماءاته. لقد كسرت احتجاجات تشرين كل الحواجز النفسية، والمعتقدات الخرافية وتقاليد القطيع، لأنها جاءت معمدة بدم أبنائها، وستتجسد مستقبلاً في كل الحقول الثقافية بلا أدنى شك، وهذا أمر يحتاج إلى وقت، فالتحولات الكبرى لا تجري بتوقيتات سريعة.
ملحمة الهجرات
• ما جديد شاكر الأنباري؟
– قريباً ستصدر لي رواية ضخمة تعالج تجربة العراقيين المنفيين في أول احتكاكهم بالبيئة الجديدة، وهي هنا أوروبا، تمتد أحداثها على مدار عقود عبر شخصيات ميتة وحية عاشت تحولات أرواحها سنة بعد سنة، لكن أبرز ملامحها هو بقاؤها منشدة نحو تلك الخارطة البعيدة، خارطة بلاد الرافدين، وأعتبرها رواية ترسم جزءاً يسيراً من الملحمة العراقية التي عاشها مجتمعنا في الأربعين سنة الأخيرة، أي ملحمة الهجرات والحروب والأمراض الروحية والتحولات الفكرية ومطاردة الحلم الوجودي في وطن يبتعد كل يوم، لكنه موجود لا يمكن تغييبه، سميتها في النهاية “نشيدنا الحزين”.