شهرة المكان.. قد تولد من شيش كباب!!

760

حسن العاني /

غالباً ما تقيم المدن القديمة لنفسها خصوصية معينة.. لقباً تتعاطاه وشهرة لها ما يسوغها، مستثمرة عمرها الزمني الطويل لترسيخ نوع من الارتباط الشرطي بحيث لا تكاد إحداها تذكر، حتى تقفز الى الذهن شهرتها او علامتها المميزة.
إن مثل هذا الترابط، لا يولد من فراغ، فهناك على الدوام عامل قوي له من الجذور والوقائع الفعلية ما يرسخ تلك العلامة التي تبدو كالوشم على جسد المدينة، لا يغادر موضعه ولا يبهت لونه، وإن طال به العهد.
كيف يمكن أن تذكر ألفاظاً على غرار سامراء أو أربيل او المثنى من دون أن تستنفر الذاكرة بصورة مجسمة من صور الدلالة الحسية او الاعتبارية التي تستحضر رمزاً او إشارة أو معنى ما؟
تلك هي القضية إذن.. علاقة مستحكمة بين الأمكنة وبين “دلالاتها النوعية”، شبيهة بذلك الحبل السري بين الإنسان وبين منجزه الذي صار هوية له، فعمر بن أبي ربيعة مثلاً أو عنترة أو أبو فراس أسماء لا تقتحم الذاكرة من كل الأبواب، وإنما من باب واحد أوسع من غيره وأعظم، على الرغم من كثرة الأبواب المؤدية الى أسرارهم.
مدخل عام
من الثابت أن المدن الحديثة تفتقر الى مثل هذه الخاصية بصورة عامة، وربما ستحتل اسماً أو لقباً تشتهر به بعد أن يصبح له جذر ثابت، وتجتهد في القبض على علامتها الشخصية الفارقة.
لو استقرأنا المدن القديمة وشهرتها لوجدنا سبباً او اكثر وراء ذلك، منها الواقعة التاريخية، فبابل، مثلاً مدينة تفتح الذاكرة على مسرى معين من التاريخ هو المسلة والأسد ونبوخذنصّر وحمورابي وواسط هي ذاكرة الحجّاج والكوفة ذاكرة الخلافة العربية الإسلامية والإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وبالاتجاه نفسه يتوقد الذهن عند سماعنا لمدن مثل النمرود أو الوركاء أو نينوى أو الناصرية.
وعلى أهمية الواقعة التاريخية، فشهرة المدن ليست وقفاً عليها، فقد ذاع صيت بعضها بحكم “مكانتها الدينية” والأمثلة على ذلك كثيرة، فيما اكتسبت مدن أخرى هويتها من “واقعها الزراعي أو الجغرافي” أو من خلال وضعها “الاقتصادي” أو من “طبعية العمل” الذي تمارسه، وكثيرة هي المدن التي ارتبطت أسماؤها بفاكهة ما أو أكلة اختصت بها او صناعة شعبية أو فولكلورية ميزتها عن غيرها والى ما لا يعد ولا يحصى من العوامل والأسباب.
ثمة ملاحظة جديرة بالتأشير ونحن نتحدث عن المدينة العراقية تحديداً، هي أن العلامة الفارقة قد تكون من نصيب محلة أو حي صغير، ولكن اللقب يعم الناحية أو القضاء واحياناً المحافظة بأكملها، بل قد تكون تلك العلامة من حصة بيت أو بيوتات قلائل ولكن السمعة او الشهرة تنتقل من الجزء الى الكل.. ومن المفيد التذكير بأن مدناً غير قليلة اجتمع لها غير عامل من عوامل الشهرة أو اللقب أو الوصف.

أطعمة وفواكه
اعترف سلفاً أن ما سيرد من “علاقات” لا يغطي عموم خارطة الوطن وأدين بالشكر لجميع من استعنت بهم، فقد كانوا حريصين على تنشيط ذاكرتهم وذاكرتي لرفد هذا الموضوع بالنافع والمفيد.
تقول ذاكرة الشهرة، كباب الفلوجة ولبن أربيل وبطيخ سامراء وطرشي النجف وعنبر الشامية وعنبر المشخاب وخبز باب الآغا وراشي بعشيقة وقيمر السدة ورمان الهويدر وكرزات الموصل وتين الوزيرية ونبق الأعظمية وخس الكرادة وبرتقال ديالى ورقي الآسكي وطماطة الزبير وطابك العمارة وتمر البصرة.. وقلائد التين السنجارية.
ويمكن أن نلاحظ اشتراك أكثر من مدينة في “المادة” الواحدة أو اشتهار المدينة الواحدة بأكثر من مادة، فالحلة لها شهرة في الباقلاء والدبس وتشاطر سدة الهندية في القيمر، ومدينة النجف شهيرة -زيادة على الطرشي-بالحلاوة النجفية المعروفة بالحلاوة الدهنية الموصل لها سمعة كبيرة – زيادة على الكرزات- بالسجق وبنوع من الحلاوة تدعى حلاوة الخضر، تصنع على هيأة مشابهة لأرغفة الخبز، أما الكبة الموصلية فهي الأذيع صيتاً، وبعشيقة وبحزاني معروفتان زيادة على الراشي بالزيتون شجرة وزراعة وفاكهة وزيتاً، وكربلاء تشاطر الهويدر بالرمان وهيت وكربلاء تشاطر ديالى بالبرتقال، ولتمور شثاثة شهرة لا تقل عن تمور البصرة، ومدينة “عين كاوه” تنافس هبهب في كحولها المحلية، واذا ذكرت البطاطس اقترن اسمها بربيعة واليوسفية، وسدتا الكوت والهندية عنوانان لوفرة السمك، أما السمك المشوي، المسكوف، فيصرف الذهن الى شارع “أبو نواس” كما يصرف هذا الشارع الذهن الى السمك المشوي، وتشارك العمارة معظم مدن الجنوب والفرات الأوسط بـ” السِيّاح والصِيّاع والطابك”، ذلك الخبز المصنوع من طحين التمن أو طحين التمن مع السمن وان كانت ميسان هي الأشهر، وحين يذكر الروبيان وأفخر انواع العنبة والبهارات تسافر الذاكرة الى البصرة من دون غيرها، واشتهرت الكرخ بـ “ابن طوبان” والرصافة بـ “الحاتي” عنوانين للباجة، وكلمة “الجعيفر” مرتبطة بـ”ابن حنانش” فلا أحد يضاهيه في سمعة وصيت الطرشي إلا كبة السراي اذا جرى الحديث عن الكبة البغدادية.. ولسوف يطول الكلام ويبقى الأساس في تلك الأسماء التي تنبه الذهن الى اسماء مرادفة لها وملازمة.

المدن والعالم
اقترن العديد من مدن ومحافظات العراق بواحدة أو اكثر من المعالم او الشواخص التي يمكن أن تكون “آثارية او جغرافية او سياسية”، وعلى العموم هناك نوعان رئيسان هما “المادية” و”المعنوية”.
واذ كنا سنذكر احياناً اكثر من “معلم” فلابد من التنبيه في الوقت نفسه الى أن أحد هذه المعالم هو الذي ارتبط بالمدينة وارتبطت به حتى باتا شيئاً واحداً وأصبح الواحد منهما دليلاً وهوية للثاني، فأربيل ترمز لنفسها بالقلعة والقلعة بالمقابل ترمز لأربيل من غير أن تتعرض الذاكرة الى أي عناء تماماً، كما تتبادل كركوك والنار الأزلية هذه العلاقة الوطيدة وكما يرتبط شارع النهر برائحة النساء.
وعلى هذا الأساس ارتبط القار بهيت والملوية بسامراء والحدباء “المنارة” بالموصل، وحيثما ورد اسم الرميثة او خان ضاري انصرف الفكر الى ثورة العشرين، واذا قلنا الخالص تذكرنا البساتين، والقطن هو محافظة واسط، والفراوي هي مدينة قره قوش وفن الغناء وكثرة المضايف رمز الناصرية وقضاء السلمان لا يبعث شيئاً في الذاكرة غير السجن القديم “نقرة السلمان” الذي ولى من غير رجعة والفاو هي الحنّاء!
وتواصلاً مع هذه الصيغة ارتبطت الشعيبة بالسكراب حتى جرت مجرى المثل، وجسر المسيب بسبب أغنية عراقية صار هوية للمدينة واكتسبت ناحية الشمال(تابعة لقضاء سنجار) شهرتها من التبغ الذي يزرع في أراضيها والذي يعد من أجود الأنواع المعروفة في العالم ومدينة “عنه” تقود الذاكرة الى أطول شارع في العراق، اما الحياكة فكانت من نصيب الحي، وحظي البساط الحياوي بشهرة متفردة.
وعلى كثرة المصايف والعيون والشلالات العراقية، فإن الإشارة السريعة تنحصر في العين السحرية وكلي علي بك وشقلاوة.. والأنهار عنوان البصرة اذا جرى الكلام عن الأنهار والنخيل رمزها اذا جرى الكلام عن النخيل، مثلما يرمز الأنبياء الى نينوى وترمز مدينة المنصور الى الأحياء السكنية الراقية وعبارة “سفرة مدرسية” هي المدائن والصدور والحبانية وسدة الهندية، ولا يمكن ان تكون “عقرقوف” الا الزقورة و.. وبغداد في ذهن الأوروبي وفي ذاكرة العالم هي ألف ليلة وليلة وعنوان العلم والحضارة والسلام.
ثم يجب الإقرار بأن كثيراً من المسميات والألقاب التي وزعناها على الخارطة القديمة لمدن العراق لم تعد كما هي، فقد جرت عليها تعديلات كثيرة بعضها جذري فيما تنازلت او تخلت مدن اخرى عن “صفتها” ولم تبق لها سوى الشهرة والصيت العتيق.. وليس أدل على ذلك أن كرادة اليوم هي غير كرادة الأمس و “عنه” الشارع الطويل تغفو الآن في قاع الفرات، ولم تعد البصرة سيدة التمر ولا الحلة طعم القيمر، ولا النجف خبيرة الطرشي ولا واسط عروسة القطن ولا المدائن والسدة مبتغى المسافرين ولا الفلوجة مطبع الكباب ولا.. ولا.. إن تطورات هائلة في حقول الزراعة والصناعة والسياحة والعمران، إن لم تسحب البساط نهائياً من تحت الأقدام فإنها قد مدت في طول هذا البساط وعرضه ليشمل بالجودة والشهرة والإنتاج الكمي والنوعي عشرات المدن بدل المدينة الواحدة.