صفحات من السيرة الذاتية للدكتور مصطفى جواد بقلمه: بدأتُ مع “الملّة صفيّة” في دلتاوه وانتهيت في السوربون!

1٬354

ارشيف واعداد عامر بدر حسون /

سألني جمعٌ من الأفاضل، أعزهم الله، عن بعض ما يعنّ لي من سيرتي وأن أدونها خدمة للحقيقة والتاريخ، فأقول:
ولدت في الربع الأول من القرن الرابع عشر للهجرة بدار في محلة (عكد القشل) ببغداد في الجانب الشرقي منها بجوار الجامع المعروف حتى اليوم بجامع المصلوب، وكان والدي جواد بن مصطفى بن ابراهيم خياطاً في سوق الخياطين المجاور لخان مرجان المعروف عند الأتراك وأهل بغداد بخان “ارتمه” وقد اتخذ متحفه للآثار العربية اليوم.
وقد أصاب العمى والدي بسبب من الأسباب التي تؤدي الى هذه العاهة، فحسن له بعض أصدقائه أن يقتني أملاكاً في ناحية دلتاوة المعروفة اليوم بالخالص ويتعيش بها. ومع هذا فقد تملك قبل ذلك ببغداد دكانه الذي يحترف فيه بسوق الخياطين وداره التي يسكن فيها وداراً في محلة الطاطران، لأن اول سكناه وسكنى والده كانت هناك، وبستاناً صغيراً في الكرادة الشرقية ومشغلاً في محلة القاطرخانه باعه قبل ان ينتقل الى دلتاوه.
ونقلني والدي معه الى دلتاوة، ولما بلغت سن الدرس في الكتاتيب وكانت مختلطة للأطفال يجتمع فيها الأبناء والبنات، فأسلمني الى معلمة للقرآن الكريم تعرف بالملّة صفيّة، وعندها بدأت ألقن القرآن العزيز بعد دراستي حروف الهجاء على الأسلوب القديم المعروف، ثم نقلني والدي الى مدرسة دلتاوة الابتدائية كانت تسمى أيامئذٍ باسم “المكتب”، وأتذكر من معلميها “صبري أفندي” رحمه الله تعالى، وكان كما يظهر من أحواله عارياً من العلم، وعبد المجيد الأعظمي، وعليه تدربت في خط الرقعة الذي هو خطي المعتاد، واجتزت الصف الثاني الإبتدائي بحسب نظام التعليم العثماني وانتقلت الى الصف الثالث الإبتدائي. وفي شتاء تلك السنة دخل الجيش الإنكليزي دلتاوة، أي سنة 1917 متعقباً الجيش العثماني المنهزم نحو الشمال، وقد مرّ الجيش المذكور بالمدرسة لوقوعها على الطريق العام من المدينة، بل الناحية، وكان ذلك اليوم آخر أيام دراستي في العصر العثماني.
توفي والدي قبل ذلك بقليل، فلم يتهيأ لي الاستمرار على الدراسة، وانصرفت الى رعاية البساتين التي خلّفها لنا والدي لي ولأخي الأكبر “كاظم” وأخواتي الست من زوجتين اثنتين، كانت والدتي الأخيرة. وبعد عقد الهدنة بين الأتراك العثمانيين والإنكليز استتبت الأمور في العراق وفتحت مدارس ومعاهد منها مدرسة دلتاوة الإبتدائية، إلا أني كنت مقبلاً على شأني وحدث نزاع بين والدتي وأخي الكبير من أجل الوصية الإبتدائية والإشراف على أموري لكوني قاصراً يومئذ، فنقلني أخي الى بغداد وتصرف بحصصي من واردات البساتين بحجة أنه هو الوصي الشرعي علي، وأدخلني المدرسة الجعفرية الأهلية قرب سوق الغزل، وأذكر من مدرسيها مديرها الشيخ “شكر” ومحمد حسن كبة، والاستاذ الخياط. –مد الله في عمره الطويل-. ثم قصّر أخي في تسديد أجرة المدرسة ضناً منه بالنفقة، فانتقلت الى مدرسة باب الشيخ الإبتدائية في أول محلة الصدرية وكان مديرها أيامئذ السيد هاشم الآلوسي، وأذكر من مدرسيها أو معلميها السيد جميل الراوي أخ السيد نجيب الراوي، ثم تركت هذه المدرسة والتحقت بوالدتي بعد استصدارها حكماً بالوصاية عليّ. وقد قاسيت من الفقر وشظف العيش والعوز ما يطول ذكره ويؤلم بيانه، حتى حلت سنة 1920 الميلادية وفيها ضاقت عليّ سبل العيش في بغداد فرأيت أن انتقل الى دلتاوة وانتفع بحصصي في البساتين الموروثة وإن كان الغالب على غلّاتها التمر، وهو أرخص الفواكه في العراق، وكانت الثورة العراقية قد شبّت في عدة من أنحاء العراق ولاسيما الفرات الأوسط ولواء ديالى، واستولى الثوار على بعقوبة ونواحيها ومنها دلتاوة، وكان الطريق بين بغداد وبعقوبة فدلتاوة تحت رقابة الإنكليز وقد سخّروا النساطرة التيارين المعروفين اليوم بالآثوريين والأرمن اللاجئين للحفاظ على الطريق وقطعه على الثوار ومحاربتهم، فلم أجد إلا طريق الجديدة الشرقي، فسلكته مع قافلة من الماكرين سائراً على قدمي فبلغت قرية “كشكين” المجاورة لدلتاوة مساءً وأطلني الليل فيها وحرت في أمري لأن القافلة سلكت طريقاً آخر، فأضافني رجل من ذوي القربى النسبية وخرجت من عنده صباحاً فوصلت الى دلتاوة ووجدت الثوار قد بنوا على طريقها المؤدي الى بعقوبة باباً دفاعياً تحصينياً وبقيت أنا في دلتاوة وعنيت بشؤون البساتين، وكان الحكم فيها للثوار وهم في هرج ومرج.
وكان الإنكليز قد جمعوا جلاميزهم وأعوانهم وأعادوا الكرّة على بعقوبة فاسترجعوها ولبثوا ينتهزون الفرصة للانقضاض على دلتاوة، وأخذوا يرسلون عليها وعلى الثوار طيارات ثلاث مرات تلقي عليهم القنابل وترهب وتخيف تمهيداً للهجوم عليها، وفي اليوم العاشر من المحرم سنة 1339 الهجرية الموافق لليوم الخامس والعشرين من أيلول سنة 1920 وكانت الأكثرية من أهل دلتاوة مشغولين بالاحتفال الحسيني وذلك يوم عاشوراء، كما بان من قولي السابق، أرسل الإنكليز عليهم ثلاث طيارات رمتهم بالقنابل تمهيداً للهجوم، وقد ظنوا أن الأمر قصف بغير هجوم كما جرى من قبل، ثم أرسلوا جواسيس الى دلتاوة نفسها يخدعون الثوار بأنهم اسقطوا طيارة انكليزية في مقاومتهم لها عند هجومها ووضعوا جماعة بأيديهم آلات من الخشب تدار فتحدث أصواتاً كأصوات رشاشات الرصاص من الأسلحة النارية الحديثة، فلما برز الثوار الى موضع الأصوات كان الجيش الإنكليزي المؤلّف من هنود السيخ وقليل من الإنكليز قد كمن في طريقهم وراء ضفاف الأنهار، فلما أصحروا أمطروهم حاصباً من رصاص البنادق والرشاشات وقنابل الشارينيل التي تنفجر قبل وقوعها فقتلوا منهم وجرحوا وتفرق الباقون شذر ومذر، وكان من بين الهاربين محمد الصدر –رح- فإنه فر لا يلوي على شيء، ودخل الجيش الإنكليزي دلتاوة وكان معه ناس من العرب أو المستعمرين من أهل بعقوبة يدلّونهم على دور أعيان الثوار، ففعلوا بدلتاوة الأفاعيل من تقتيل للرجال وتشريد للعيال وتعذيب وتخريب ونهب وسلب وقطع للنخيل والأشجار وإحراق للديار. وكنت فيمن خرج لرؤية الطيارة المسقطة فلم ألق إلا شآبيب الرصاص، فنكصت مع صبية آخرين كانوا يحبّون الأطفال وهربت معهم وقضينا تلك الليلة في البساتين، وكانت ليلة ماطرة ذات رعد ورياح شديدة، ودخلنا دلتاوة في اليوم الثاني عصراً بعد أن سمعنا الهدوء فيها وكنا صغاراً لا نعد من حملة السلاح ولا القادرين على الكفاح، فألفينا دلتاوة خاوية عاوية قد قتل رجالها ونهبت أموالها وساءت جداً أحوالها، وعادت بعد ذلك حياة الناس الى الاطراد شيئاً فشيئاً وأصدر الإنكليز أوامرهم بفتح المدارس، وأكثروا من تعيين الجواسيس وأتباعهم فيها احتياطاً، وللاطلاع على العناصر الثورية ومفاجأتها قبل العمل، وأقبلت أنا على اشتغالي ببساتينها، عازماً على أن ابقى مستمراً على معيشة الغراسة والفلاحة، ورآني ذات يوم شاب هو ابن مدير المدرسة –رحمه الله- فقال لي: سمعت أنك من طلاب المدرسة وأرى لك أن تلتحق بالمدرسة فذلك خير من حياتك هذه في المستقبل، وما أدري ولم ادر أكان مصيباً في قوله أم مخطئاً؟ ولكن حب الظهور والعيش المعتدل المتوسط بعثاني على قبول نصيحته فدخلت المدرسة وكنت مضيقاً دائماً لأن غلبة البساتين من التمر لم تكن تكفي في الإنفاق. ومرت عليّ أيام لم أستطع فيها أن اشتري حذاءً بدلاً من حذائي العتيق البالي المهترئ، وبلغت الصف الرابع في المدرسة وانتقلت الى الصف الخامس، فبلغني أن ببغداد “دار المعلمين الابتدائية” وتقبل الطلاب بالامتحان، فسافرت الى بغداد وشاركت في الامتحان، وكان في الأسئلة سؤال هندسي ونحن لم ندرس الهندسة، وكانت غاية السؤال معرفة الفرق بين مساحة مثلث ومساحة مربع وبيان الأكبر منهما، فذكرت أن المثلث أكبر مساحة من المربع وأن المربع أكبر مساحة من المثلث فقط، ولم أتعلم استخراج المساحة، كما ذكرت آنفاً، فالظاهر أني أصبت الهدف وكنت حسن الإجابة في الدروس الأخرى فظهر اسمي بين المقبولين في دار المعلمين الابتدائية المذكورة، وصرت في عداد طلاب الصف الأول، وأذكر من معلميها الأستاذ السيد طه الراوي –رح- والأستاذ سعيد فهيم والأستاذ أميل ضومط اللبناني، ومديرها مصري اسمه “سيد محمد خليل” وكان رجلاً ذكياً ألمعياً طويلاً، أبيض بخلاف أكثر المصريين، وأذكر من طلاب الصف الأستاذ عبد الستار القره غولي –رح- ومحمد علي قتيل واقعة بكر صدقي أو حادثة بعد ذلك. وبقيت في دار المعلمين الابتدائية وقويت عندي الرغبة في دراسة العربية وكنت أميل إليها منذ دراستي الأولى، وفي الصف الثاني من دار المعلمين كان الأستاذ أحمد الراوي يدرسنا العربية والإنشاء فكنت أنظم له الإنشاء أحياناً فيقدر لي أحسن درجة ويصلح لي كلمات من القصيدة الإنشائية، وفي هذه السنة جاء الى معارف العراق ساطع الحصري السوري –رح- أو قبلها مع الملك فيصل بن الحسين، فاختلف معه مدير دار المعلمين المصري المذكور آنفاً، أعني “سيد محمد خليل” وترك معارف العراق فاستقدم لإدارة دار المعلمين الابتدائية “يوسف عز الدين الناصري التكريتي” –رح- وكان رجلاً طويلاً يساوق الأحوال ويحسن سياسة الطلاب وبقي في إدارة تلك سنين، وقد رأى فيّ ميلاً قوياً الى العربية فكان يكلفني في الصف الثالث وأنا طالب بالبداهة أن اقوم مقام أخيه محيي الدين في مدرسة التطبيقات الابتدائية لتدريس عدة ساعات حين يكون أخوه في مهمة تستدعي غيابه عن الدرس.
وكنت في أثناء السنتين الثانية والثالثة أنشر شعراً مدرسياً كوصف الطيارة مثلا وكنت خطيب المدرسة في السنة الثالثة، وشاركت في تمثيل رواية ساذجة، وتخرجت سنة 1924 معلماً ابتدائياً في مدرسة الناصرية الإبتدائية وكان مديرها السيد عبد المجيد زيدان، وكان –رح- متشدداً على المعلمين فتألب عليه جماعة منهم وكنت فيهم، وفي أثناء تلك السنة أصدر الأستاذ هاشم السعدي مجلة المعلمين ببغداد فبدأت أنشر فيها شعري، ومما نشرته فيها “التوجع والإثارة” لمحمد بن عبد الكريم الخطابي أيام محاربته الفرنسيين بالمغرب، وفي تلك السنة جاءنا الى الناصرية للتفتيش العام الأستاذ ساطع الحصري ولقيته في دار المتصرف جميل المدفعي لأني كنت أزوره وكان يدعي أن له قرابة معنا لأنه نشأ يتيماً في دلتاوة، فقال لي الأستاذ ساطع “يا ابني الشعر بيزرك وما ينفعك” أي “يا بني الشعر يضرك ولا ينفعك” ولم أعلم سر هذه الحكمة الرائعة، مع إيقاني بأني لم أنشر إذ ذاك إلا شعراً وطنياً، فلم أحفل بقوله لأن القريحة هي التي تفرض نفسها وكيف تردم عين ثرارة لها عد لا ينقطع من ماء الطبيعة؟!
وفي السنة الثانية من تعليمي بمدرسة الناصرية الابتدائية عينوا لها مديراً اسمه “عزيز سامي” وهو غير عزيز سامي أبي صميم الأديب الكركوكي، وكان هذا المدير من المشتغلين مع الانكليز في ادارة الشبانة أو غيرهم من المتطوعين ويظهر انه تركماني، وكان يحسب المعلمين كالشبانة، فوقع خلاف بيني وبينه في مبدأ العطلة الربيعية فضربني في المدرسة وضربته بالمقهاة وانتهى الأمر بنقلي من مدرسة السيف الابتدائية بالبصرة، بعد عطلة الربيع فنقلت اليها واذكر أن مديرها كان يسمى جاسم شوقي، وقضيت في البصرة نصف السنة وتشبثت بعدة وسائل لنقلي الى مديرية معارف بغداد فنقلت الى الكاظمية في مدرستها الابتدائية، وفي كل ذلك كنت ادرس اللغة العربية وفروعها المقررة للابتدائيات الا البصرة فقد اجبرني المدير أن ادرس الحساب فقبلته على كره لأني اكره الرياضيات وان كنت ناجحاً فيها في امتحان دار المعلمين الابتدائية نجاحاً باهراً، ثم نقلت من مدرسة الكاظمية الى مدرسة دلتاوة الابتدائية وكان لها مدير متشدد ايضاً فتألبت عليه جماعة وزاد الخلاف بسعاية معلم متجسس، وكان مدير معارف بغداد عاصم الجلبي، فشكانا المدير اليه وجاء الى دلتاوة، ثم اختارني استاذي يوسف عز الدين الناصري لتحرير وزارة المعارف فنقلت الى بغداد وكان المسيطر على شؤون الوزارة يهودي انكليزي يرأس قسماً من الاستخبارات الانكليزية بالعراق اسمه “سمرفيل” وله اتباع على رأيه في الوزارة، وكان مدير المعارف الاستاذ سامي شوكة وكان قد ترك الطب واقبل على غير شأنه، ثم جاء يوماً الى سامي شوكة احد كبار الرجال من ارباب الدولة، وأحسبه باشا العسكري راجياً منه ان ينتقل الى مكاني الأستاذ الشاعر “مهدي الجواهري” لأنه كان يدرس العربية في المدرسة المأمونية، وكان الطلاب يؤذونه اذى شديداً الى حد ادماء يديه بمصراعي باب الصف ولا يمكنه الصبر على ذلك، فنقلت الى وظيفته في تدريس العربية الى المأمونية فألفيت اكثر طلابها من أبناء أرباب الدولة وعلى غاية من قلة الأدب، فشددت عليهم واعدتهم الى السبيل السوي، وفي اثناء اقامتي بالبصرة أقيم احتفال محزن لسوء الحال الذي آل اليه امر محمد بن عبد الكريم الخطابي بإفريقية مع الفرنسيين والإسبانيين ودعيت اليه فألقيت قصيدة عنوانها:
قل لي الى اين الغضنفر سيقا
أو لم يجد في العالمين شفيقا؟
وقد نشرت في جريدة الأوقات البصرية التي كانت تصدر في البصرة ايامئذ، وكانت القصيدة جامعة بين الرثاء والحماسة. وفي اثناء اقامتي ببغداد للتدريس بالمأمونية نشرت التاريخ المسمى غلطاً “الحوادث الجامعة” المنسوب الى ابن الفوطي واخذت انشر في مجلة لغة العرب للأب انستاس الكرملي، وبدأت أعالك النقد، وكنت في ايام تدريسي بالكاظمية أكتب مقالاً في مجلة العرفان اللبنانية وانشر شعراً سياسياً في جريدة العراق وشعراً اجتماعياً في جريدة العالم العربي ومنه أبيات أرثى بها لحالة الفلاح العراقي ونشرت قصصاً في جريدة النهضة البغدادية لأمين الجرجفجي وناقدت كتاباً وناقدوني ومنهم من شتمني وكان أحدهم أستاذا لي في الدين بدار المعلمين الابتدائية ولا فائدة في ذكر اسمه فهو مشهور ومشهود بالتعصب الأعمى، ولما رأيت فساد وزارة المعارف وجدت فرصة لأن أكون معلماً في مدرسة اليسوعيين اول تأسيس مدرستهم في الصليخ لأنهم وعدوني بمئتي روبية شهرياً، ثم أحس بعض رجال المعارف الأطياب بعزمي وعينت مدرساً في المتوسطة الشرقية سنة 1932 وبقيت فيها وداومت النشر في مجلة لغة العرب نثراً ونظماً وساعدت الأب انستاس على تحرير المجلة وكنت ارى الاستاذ جميل صدقي الزهاوي يحضر عند الأب انستاس ويكتب نقداً على عباس محمود العقاد في ديوان شعره ويخرج باسم المجلة تعصباً للدكتور احمد زكي أبو شادي فقد كان على خلاف قائم بينه وبين العقاد، ثم ان وزارة المعارف صارت الى السيد عبد المهدي المنتفكي وكان يقرأ كثيراً من مقالاتي ففتح هذا الرجل الطيب باب البعث العلمي بعد ان كان مقصوراً على ناس بأعيانهم فدخلت في بعثته سنة 1934 ورسم لي التخصص بالآثار في أمريكا فوجدت الطريق طويلاً والمعهد بعيداً قصياً وكنت قد تزوجت وانا معلم في الكاظمية سنة 1928 وولد لي طفلان ابني جواد وهو أكبر اولادي وابنتي نزهة وهي كبرى بناتي، فغيرت وجهة بعثي العلمي الى فرنسا وارسلت الى القاهرة لأكون معلماً في كلية الآداب واتعلم مبادئ اللغة الفرنسية، فذهبت الى القاهرة وقضيت المدة المقررة وتعلمت مبادئ الفرنسية، وكنت قد نشرت للأب انستاس “الجزء التاسع من تاريخ الجامع المختصر وعيون التواريخ وعيون السير” لابن الساعي المؤرخ البغدادي المشهور ونشرت قصيدة في فلسفة الوجود في المقتطف وشاركت بقصيدة في احياء ذكرى شوقي بالقاهرة.
وفي سنة 1934 سافرت الى باريس وأردت الدخول في كلية السوربون من جامعة باريس فلم تلق شهادة دار المعلمين الابتدائية منهم قبولاً فاستعنت بمستندات علمية اخرى وترجمتها الى الفرنسية وساعدني ايضاً شيخنا الأستاذ لويس ماسينون المستشرق المشهور فقبلت في كلية السوربون لإعداد الدكتوراه الأدبية فاخترت موضوعاً تاريخياً هو “سياسة الدولة العباسية” في أواخر عصورها، وقبل ان أتم عملي كانت مدة التعهد وهي ثلاث سنوات قد انتهت فأوعز الدكتور فاضل الجمالي باستعدادي للتدريس لأنه كان يكره كثرة شهادات الدكتوراه في وزارة المعارف فعدت الى بغداد وعرضت شكواي على رئيس الوزراء يومئذ جميل المدفعي ومدحته بقصيدة نشرتها في جريدة الزمان، وعرضت غبني على الشاعر الكبير الذائع الصيت محمد رضا الشبيبي وكان وزير المعارف اذ ذاك فوافق على تحديد التعهد سنتين أخريين، فجددته وسافرت الى باريس عوداً على بدء وأكملت رسالة الدكتوراه أو اطروحتها كما يقولون، وقبلت وأعلنت الحرب فلم تتهيأ لي مناقشتها ولا طبعها ولا تزال مخطوطة غير مطبوعة ولا مترجمة، ولما رأينا أن هجوم الألمان الجوي قد بدأ أيقنا أن الحرب ستطول وأن البقاء في فرنسا جد خطر وسيئ العاقبة فعدت الى العراق بالقطار مع افراد الطلاب العراقيين، قبل اعلان ايطالية الحرب بأيام، ووصلت الى بغداد وبقيت من غير تعيين لاني نقدت كتاباً مقدماً الى بعض الوزراء الذين لا يقدرون طلب الحقيقة حق قدرها ثم عينت بعد الرجاء مدرساً أو معلماً وأستاذاً في دار المعلمين العالية التي تسمى اليوم كلية التربية وذلك سنة 1939 ثم دعيت لخدمة الاحتياط فأساموني وأسمتهم حتى تخصلت منهم وعدت الى دار المعلمين المذكورة.
وفي سنة 1942 دعيت لتعليم الملك الصغير فيصل الثاني اللغة العربية من القراءة الخلدونية وكان قد اهمل تعليم العربية سنة واحدة فبدأت بتعليمه في السنة السابعة من عمره وعلمته القراءة والكتابة، ولصعوبة الجمع بين تدريس دار المعلمين العالية وتعليم الملك الصغير طلبت أن أنقل الى مدرية الآثار فنقلت الى وظيفة ملاحظ فني ثم رأيت سوء الادارة فيها وبقاء راتبي المالي على حاله فرجعت الى دار المعلمين وبقيت فيها الى أن أنشئت جامعة بغداد وسميت هذه الكلية باسم كلية التربية كما أشرت اليه آنفاً، ولا أزال في عداد أساتذتها وان كنت مقعداً ذا مرض عضال. وقد انتخبت مراسلاً للمجمع العلمي العربي بدمشق ثم عضواً عاملاً في المجمع العلمي العراقي في دوريه وطوريه، وقد نشرت كثيراً من شعري في عدة مجلات وصحف وجمعت ما استطعت منه في دفتر سميته “الشعور المنسجم في الكلام المنتظم” وفيه شعر الشباب والكهولة والشيخوخة وهو مختلف قوة وضعفاً بحسب اطوار العمر واختلاف وصفاء البال ولولا أن الشعر يمثل أطوار حياة الشاعر لحذفت كثيراً من الشعر الذي ضمنته هذا الدفتر.