طفيلي 2-2

764

مقداد عبد الرضا /

العالم يتربص، والعالم يتصيد، والعالم ينجز ويلتقط أدق اللحظات ليودعها التاريخ, العالم يؤرشف ثم بعدها يحكي, يحكي كثيراً ويبرع ويحصل على تصفيق وهتاف استحسان. قبل أيام كنت أشاهد فيلماً وثائقياً عن تاريخ الفوتغراف في العالم يتحدث عن اللحظات الدقيقة والمتوترة في قنص اللحظة ومحاولة في إيقاف الزمن, وعلى الرغم من تلك الكاميرات البدائية كانت هناك لحظات عظيمة، منها تلك اللحظة التي كان مصورها خائفاً من موسوليني حينما صوره وهو يداعب أنفه. العالم ذكي ولمّاح, بلادنا تمر بسخونة كبيرة لم نشهد لها مثيلاً من قبل, الحراك الشعبي والمطالب كبيرة ومتوترة, الدم يسيل والشباب يقارعون بقوة للحصول على حياتهم وبلادهم, إزاء هذا التوتر هل سنشهد، بعد أن يستقر الحال، شيئاً يؤرخ هذا المشهد الكبير؟ أم أن حاله سيكون حال أى شيء آخر لم يقتنص بدقة؟ الأيام بيننا ..

تتسلل العائلة البائسة تباعاً وبهدوء تام إلى منزل الرافاهية الكبير, فبعد قبول الابنة كي جونغ لتدريس الطفل داسنوك, يقابلها رب الأسرة ويفرح بما أنجزته مع الطفل ويطلب من السائق أن يوصلها إلى منزلها. في السيارة الفارهة تنزع جونغ سروالها الداخلي وتضعه تحت المقعد, يكتشف رب الأسرة السروال ويقوم بطرد السائق ظناً منه أن السائق يمارس أفعالاً غير أخلاقية داخل السيارة, فمن هو القادم؟ القادم هو الأب السائق العاطل عن العمل, وتطرد المربية والخادمة كيم كوانك أيضاً بسبب مرض أصابها، كما ظنت العائلة، لكنها ستظل تتواصل مع الطفل داسونك, لكنها كانت خدعة من البنت جونغ, جاءت الزوجة لتقوم بالمهام, هاهو الجو قد خلا للعائلة البائسة, فكيف ستصفر وتطير؟ تتهيأ العائلة للقيام بسفرة قصيرة للراحة وتغادر ويظل البيت لهذه العائلة المتسللة لتطير به عالياً انتقاماً من الفقر المدقع الذي تعيشه, طعام باذخ وشراب وتحرر. في هذا الجو الماطر والبارد في الخارج والدافئ في الداخل يقرع جرس الباب فيتجمد كل شيء، من القادم في هذه الساعة من الليل؟ إنها الخادمة السابقة التي تدَّعي أنها نسيت شيئاً ما في قبو البيت تحت المطبخ، لكن الحقيقة غير ذلك, تختبئ العائلة وتظل الخادمة الأم كيم كوانغ, تفتح الباب فتهرع كيم جونغ إلى القبو لنكتشف أن هناك رجلاً يعيش فيه منذ سنوات أربع, هو زوجها في الحقيقة, زوجها الهارب من الديون والقروض, في لحظة تقع العائلة التي كانت تتنصت على مايجري وينقلب الحال, تصور جونغ المشهد وتهدد بأنها ما إن تضغط على الزر حتى يصل كل مايجري إلى عائلة كيفن الصغير, مشهد رائع وتصوير أخّاذ في لقطات النزول إلى القبو, يسترخي الزوج المختبئ وهو يحمل الهاتف في يده مهدداً بضغطة الزر. وفي مشهد من أجمل مشاهد التورية تهتف الخادمة جونغ وهي تقوم بتدليك زوجها, يقول لها الزوج إن زر هذا الهاتف يشبه قاذفات الصواريخ، فالتهديد بالصواريخ يعطل الآخرين عن القيام بأى فعل, إنه يشبه صاروخ كوريا الشمالية, ترد الزوجة وهي متربعة فوق ظهر زوجها: اليوم قائدنا الحبيب والعظيم كيم جونغ أون بعد أن شاهد مقطع العائلة المحتالة لم يكن قادراً على كبت عنفه تجاه حقارتهم, لذلك وفي عصر نزع السلاح النووي, أمر قائدنا العظيم والحبيب أن يوجِّه آخر رأس قذيفة صاروخية نووية متبقية في البلاد لتستقر في حناجر هذه العائلة القذرة, وبوجود أحشائهم النتنة تكون هي آخر مقبرة نووية, ومثلما يرغب قادتنا العظام بنزع السلاح وتحقيق السلام العالمي.
وفي لحظة ينقلب المشهد فتعود السيطرة مرة أخرى لعائلة كيم كوانك, يسجن الزوج مع زوجته في القبو, تعود العائلة من رحلتها وكل شيء هادئ, تتهيأ العائلة لإقامة حفلة كبيرة في حديقة المنزل يدعى لها الكثير, في جو المرح والسعادة, يسيل الدم, زوج الخادمة جوانغ وهو مسجون وقابع في القبو يتمكن من مسك الابن وفي صراع دامٍ يتمكن من قتله بصخرة الجد الكبير ويخرج إلى الحديقة وهو يحمل سكيناً التقطها من مطبخ المنزل, إنه الآن في فرح هستيري, يقوم بطعن البنت كي, تتوالى الطعنات, القتل يقتل الكل على خلفية موسيقى غاية في الرومانسية والهدوء, هل تغلبت الرثاثة على التخمة بهذا الدم والقتل؟ هل هو انتقام أم محاولة للحصول على حرية غير مكتملة بهستريا الحاجة؟ هل هو جواب على تلك الصواريخ التي يطلقها العالم تجاه العالم؟ الاحتفال كبير, الاحتفال دم وموت, لعلها نهاية شيكسبيرية بامتياز, لقد تمادى الدم بحيث لايمكن التراجع, هو ذا عالمنا المخبوء تحت الجزع والشد والقتل اليومي والعنف, الأب العاطل عن العمل يذهب بحريته إلى القبو كي يعيش هناك, ربما يحاول أن يقول لنا إن العتمة قد تكون أحياناً ملاذاً آمنا لنا. منذ بدايته، اختط المخرج بونك جون لنفسه أن يكون حكّاءً بارعاً ومدهشاً، لذلك نجد أن أغلب أفلامه هي من خياله الخصب وتجربته الشخصية. يقول: في شبابي كنت أحاول جاهداً الحصول على قوت يوم الدراسة بأية طريقة, وإحدى هذه الطرق حين كنت ألجأ إلى تدريس أبناء الطبقة الغنية, مازلت أتذكر اللوعة والعذاب الذي كان ينتابني وأنا اشاهد تلك البيوت الفارهة وأؤلئك الناس الذين يعيشون فوق خط التخمة, لقد استطاعت سينما كوريا الجنوبية أن تخط لنفسها موقعاً جيداً في مهرجانات العالم, جائزة هنا وأخرى هناك, لكنها ولأول مرة تحصل على سعفة كان الكبرى هذا العام 2019.