طفيلي

594

مقداد عبد الرضا /

الخلل عادة يكمن في الخطاب, هل الخطاب صورة أم صوت؟ وهل الصورة كما يريدها العالم الآن مختزلة أم ثرثارة؟ نشاهد في عالم الغرب أن الصورة لديهم أساس ومن هذا الأساس انطلقوا في مخاطبتنا نحن الذين بقينا نهتف بالصوت إذ باعوه لنا واحتفظوا لأنفسهم بالصورة, لذلك تجد أن خطاب الصوت يغلب كثيراً على أعمالنا السينمائية والدرامية, لو أننا لاحظنا أن لعبة البانتومايم تكاد تكون غير واضحة المعالم في مسرحنا العربي وغنية في المسرح العالمي وذلك للفقر الذي يعيشه الخيال العربي صورياً وغنياً لدى الخيال العالمي فما العمل؟ سؤال مهم.
في القانون الإنساني الرحيم, فإن للفقراء حقاً على الأغنياء, لكن هل يشمل هذا القانون أن للأغنياء واجباً على مساعدة الفقراء؟ هنا يكمن السؤال، ومن هنا يبدأ الصراع ويبدأ التساؤل, من أين جاء الأغنياء بكل هذه الثروة, وكيف, إنه صراع منذ الأزل بالشك في توزيع الثروات. هناك نوع من البشر لديه القدرة على سحق كل شيء من أجل تشييد أساس متين لثرواتهم, وماجمع مال إلا من شح أو بخل أوحرام. أحياناً لاينفع أن يكون الغني رحيماً بعض الشيء فالجوع والشبع نقطتا اختلاف لايمكن السيطرة عليهما. نحن الفقراء عادة نسير مع الفقير ومع اللص, أحياناً وحسب شعار روبن هود الذي أطلق منذ سنوات بعيدة, شخصية برزت في الفلكلور إلانجليزي تمثل فارساً شجاعاً، مهذباً، وخارجاً عن القانون، ومايسرقه من الأغنياء يوزعه على الفقراء، عززه فيلم بنفس الاسم (روبن هود) وكان أول انتاج له في العام 1938 قام ببطولته آيرول فلين وأصبح من خلاله أسطورة الفقراء. وتوالت إنتاجات عدة لهذا الفيلم كان آخرها في العام 2018.
هنا يمكن أن نتساءل باستغراب كبير: هل نحن مع اللص كفقراء؟ نعم، والدليل تلك الأفلام والمسلسلات التي يعج بها العالم, نحن نفرح لما يحققه اللص عناداً مع السلطة، فسلطة القمع أقسى من سلطة اللص.
في هذا الفيلم الذي نحن بصدده (طفيلي)، سنتعرف على اللصوص الطفيليين، وربما سنتعاطف معهم. في التاريخ العربي وكذلك العالمي هناك طفيليون يتسللون الى القوم دون استئذان وأحياناً هم مرحب بهم للطرق الملتوية والمحببة التي يمارسونها. المخرج الراحل قاسم محمد في سبعينات القرن الماضي كان قد تصدى لهذه الشريحة في مجتمعنا العربي حين قام بإعداد وإخراج مسرحية في سبعينات القرن المنصرم على مسرح بغداد قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث تحت عنوان (بغداد الأزل بين الجدّ والهزل)، وفيها تعرفنا على لوعة الفقير في الحصول على قوت يومه واسترخاء الغني وتجاهله لمعدة الفقير, وكان أشعب (يوسف العاني) هو محور مهم وخط من خطوط المسرحية الذي يمثل الطفيليين بتجسيده دور أشعب، الطفيلي الذي تذكر المصادر أنه هو اول من طفل وأبوه أول من زل. وعلى لسان أستاذنا الراحل سامي عبدالحميد إذ يقول: “هذا أشعب الطفيلي، الصورة الفريدة في عالم الطفيليين التي كتب عنها وخلدها الجاحظ وابن عبد ربه والخطيب البغدادي وبديع الزمان الهمذاني”. كان أشعب عندما يجوع يطرق الأسواق وحواريها حتى يحصل على مايسد به جوعه.
هنا، وفي فيلم (طفيليون) للمخرج بونك جون هو, الذي حصل على السعفة الذهبية لمهرجان كان هذا العام 2019 يطلعنا على نفس الشريحة: طفيليين, أب وأم وابن وابنة يعيشون تحت خط الفقر, قبو تعج به الزواحف الصغيرة التي تعتاش هي الأخرى وتتطفل على طعامهم وقوت يومهم العسير. تحاول هذه العائلة بشتى الطرق أن تعيش وسط هذا العالم المتلاطم والمتسارع, الابن يسرق خط الإنترنيت, الأب السائق العاطل عن العمل يحاول أن يصنع من مادة الكارتون علباً لحفظ البيتزا لأحد المطاعم, يفشل في طريقة الإعداد ويخصم من مبلغ العمل الكثير. الصدفة وحدها تقود إلى عالم آخر, عالم تعج فيه كل أنواع الراحة والرفاهية, الابن (كي وو) له صديق يعمل مدرساً لمادة اللغة الإنكليزية لابنة من عائلة ثرية جداً, يدعوه للقاء في أحد المطاعم ويخبره بأنه مسافر للدراسة في الخارج ويقترح عليه أن يقوم هو بدلاً عنه في التدريس, كي وو الذي سيتخرج في العام المقبل لايملك شهادة تؤهله لهذا العمل فتقوم أخته البارعة في برنامج الفوتو شوب بتزوير شهادة له, يطرق الباب بذهول وتوتر, يفتح له وتفتح معه أبواب السعادة, ترحب الأم والخادمة كيم كوانك بكي وو المدرس الجديد لابنتهم, تحضر الأم الدرس الأول لابنتهم الغنية الغبية التي لاتهتم بالدرس أكثر من اهتمامها بكي وو الذي أطلقت عليه الأم اسم (كيفن) تيمناً باسم كيفن في فيلم (وحيداً في المنزل), ذلك الفتى الشاطر الذي يفشل كل محاولات اللصوص في سرقة بيتهم, تفرح الأم الساذجة بطريقة كيفن في تدريس ابنتها وتعطيه المكافأة وفيها زيادة, يلاحظ كيفن أن العائلة لديها ولد صغير لايهدأ أبداً يدعى (داسونك), كثير الحركة, تعاني الأم منه وكذلك الخادمة كيم كوانك, لكن داسنوك بارع في الرسم وله لوحات عدة معلقة في البيت. يقترح كيفن على الأم باستقدام فتاة يعرفها شاطرة وذكية جداً في طرق تهذيب الأطفال عن طريق الفن, ومن باب تعزيز الموقف يخبرها بأنه يتمنى أن يكون لهذه الفتاة وقت للقيام بالتدريس, ترحب الأم بهذا الاقتراح وتفرح وتلح عليه بأن يحضرها, وكان لها ماتريد وكذلك ماتريده العائلة فلقد بدأ تسللهم بخفة وروية إلى هذا البيت العامر بكل شيء. تحضر الأخت كي جونغ إلى البيت الكبير، ومنذ اللحظة الأولى تفرض سيطرتها على المشهد, تطلب من الأم مغادرة غرفة الدرس, والنتيجة أن الأم أخذتها الدهشة وهي تشاهد من بعيد كيف أن داسنوك استقام في سلوكه وانحنى بأدب حينما طلبت منه المعلمة المغادرة والذهاب الى غرفته وعدم إشاعة الفوضى في البيت فينصاع بأدب، ينحني ويغاد.