ظهورها كان مفاجئاً بعد أكثر من ثلاثين عاماً إنها صورتي ولكنها ليست صورتي!

742

عبدالزهرة زكي/

تلقيت قبل أيام صورةً بعث بها إليَّ صديق محترم عبر الرسائل الخاصة في حسابي بفيسبوك.

لم يرفق الصديق مع الصورة أيَّ توضيح لها، لكنها كانت واضحة؛ إنها صورة لطلبة وطالبات جامعيين في قاعة يبدو أنها قاعة احتفال فني أو ثقافي مما كان مألوفاً في سنوات السبعينات في الرواق الجامعي. من الواضح أن زمن الصورة، وهي بالأسود والأبيض، ليس معاصراً؛

طبيعة الصورة، وأزياء وتسريحات الشابات والشبان، تؤكد أنها صورة تعود لعقود سابقة، بل إنها أحالتني مباشرةً إلى عقد السبعينات، وهو العقد الذي كنت في نهاياته في جامعة البصرة.
تأملت في وجوه الصورة جميعها فلم أتعرّف على أحدٍ فيها. لكن كان من الصعب عليّ ازاحة فكرة أن الصورة سبعينية، وأن المكان قد يكون واحدة من قاعات جامعة البصرة حينما كانت في التنومة. وفعلاً، بعد تأملي في الصورة للحظات وردني تعليق من الصديق الذي كان قد بعث بالصورة يشير فيه إلى أن الصورة في قاعة كلية الزراعة في البصرة لجمهور من الطلبة، ويؤكد أني حاضر في الصورة.. إنه زميل إذن في جامعة البصرة ويحتفظ بهذه الصورة.

تأكدت مباشرة أن الصورة في قاعة كلية الزراعة.. كانت هذه الكلية بمجمّع واحد مع كليتي العلوم (لم أذكر أني دخلتها يوماً) والهندسة التي درست فيها لثلاث سنوات. ومما أذكره أن تلك القاعة في كلية الزراعة لم أدخلها سوى مرة واحدة، ولكن في تلك المرة لم أكن جالساً في مقاعد الجمهور؛ لقد كنت أقرأ شعراً على المنصة لجمهورٍ واسع من الطلبة وغيرهم ممن حضر تلك الجلسة التي كانت مكرسة لي. كنت احتفظ بصور كثيرة لتلك الجلسة لكنها أُتلفت بين كثير مما أتلفه الزمن والتنقلات وظروف أخرى عشتها خلال هذه العقود التي تفصلنا عن تلك السنوات. بالتأكيد لم تكن الصورة من صور تلك الجلسة الشعرية، فليس فيها من أصدقائي ومعارفي ولا حتى زملائي في كلية الهندسة أحد، بل إنني استعيد أشباح وخيالات صور بعض الموجودين في الصورة بوضوح فأتذكر أن بعضهم كان من طلبة كلية الزراعة، لكن أين أنا في الصورة؟

يبدو جلياً أن الصديق توهم حضوري في الصورة، لم أدخل هذه القاعة ولم أجلس مطلقا على مقاعد الجمهور فيها في تلك المرة الوحيدة التي دخلت فيها إليها. ما زلت أذكر أني جئت من محاضرة أخيرة في كليتي انتهت عند الساعة الرابعة وخمسين دقيقة.. بلغت القاعة في الخامسة وخمس دقائق، وكانت القاعة مكتظة بالحضور حين دخلت من باب خلفيٍّ فيها، وما إن شاهد حضوري زميل كان يقدم الجلسة حتى باشر بتقديمي بحيث ظللت واقفا في آخر القاعة منتظرا انتهاءه من التقديم، وحين فرغ من ذلك ارتقيت المنصة مباشرة وبدأت القراءة. كنت استعيد المشهد بتفاصيله كما لو أني عشته البارحة، بالتأكيد أن الصديق متوهم.شكرته وأبلغته بخلاصة استنتاجي، لكنه عاد وأكد حضوري، حتى إنه أشار إلى صورة طالب جامعي في أحد صفوف كراسي القاعة مبيناً أنها صورتي. الأبرز في صورة هذا الطالب هو تسريحة شعره؛ شعر طويل ومفترق من منتصفه تماماً، مع ابتسامة هي أقرب إلى أن تكون ضحكاً كان يترافق مع همس (يعبر عنه انحناءة الطالب واقترابه من زميل مجاور له في الجلوس).. وبدا لي أن الطالب كان يستخدم نظارة طبية. هذه الملاحظة الأخيرة حسمت وبتأكيد شديد على أن الصورة ليست لي، حيث لم استخدم النظارة الطبية حتى اليوم.

سوى هذا فإن لا شيء في الصورة كان يقنعني أن الصورة صورتي. صحيح أني أحيانا كثيرة في شبابي المبكر كنت أظهر بتلك التسريحة بشعر مفترق من المنتصف، ولكن كثيرين سواي كانوا يفضلون هذه التسريحة في تلك السنوات، وبالتالي فهي ليست دليلاً جازماً على أن ذلك الطالب الظاهر في الصورة هو أنا..

لا أذكر أني كنت قد ضحكت بالطريقة التي يبدو فيها ذلك الطالب الذي في الصورة والذي يريد زميلي السابق أن يقنعني أنه أنا. كان الطالب يبدو سعيداً، وكانت ملامحه (وهو ينحني ويهمس) توحي أنه كان يعلِّق لزميله وربما يسخر من شيء ما أمامه أكثر مما توحي به من استمتاع بالمشاهدة في تلك القاعة وبما كان يجري فيها ساعتها.

لقد كان لي كثير من الأصدقاء والصديقات في كلية الزراعة لكني أذكر أن معظمهم لم يكن معنيا بالحضور في معظم الفعاليات المقامة في داخل الجامعة.. كنا نستغل هذه الأوقات لتزجية ساعات ممتعة معاً في أماكن البصرة الأخرى حين يكون لدينا ما يكفي من نقود للتنزه والاستمتاع أو ننصرف لسكننا خارج الجامعة في حي التنومة لنقرأ ونعدَّ طعامنا هناك.

من غير المناسب أن أعود إلى الزميل واستفهم منه أو أنفي له صلتي بالصورة.. لكن يجب أن أتأكد مما يقوله الزميل، خصوصا أنه يؤكد بثقة واضحة كلامه. اتصلت بأكثر من صديق ممن كانوا في كلية الزراعة واستفسرت منهم ما إذا كانوا يذكرون أني قد حضرت معهم لفعالية في قاعة كليتهم. كان الجميع يتحدث لي عن جلستي الشعرية فيها، لكن زميلة واحدة (لم تظهر في الصورة) أكدت لي حضوري مرةً عرضا مسرحيا طلابيا جرى تقديمه في القاعة، كانت صديقة مشتركة لنا ممثلةً فيه، وكان هذا هو داعي حضوري وحضورها هي أيضا العرض، كما تتذكر الزميلة ذلك وتفسره.

بعثت إليها بالصورة، فتعرفتْ على عدد من الطالبات والطلبة الظاهرين في الصورة، إنهم زملاؤها في كلية الزراعة من أقسامها المختلفة من محافظات مختلفة، وبعضهم زملاء وظيفة لها الآن أو قبل سنوات قريبة. لم تشر إلى ظهوري في الصورة ولم تتحدث عنه، عدت لاطمئن أكثر فسألتها ما إذا كانت تعرف آخرين في الصورة (ولم تكن على معرفة بمشكلتي مع الصورة وطريقة وصولها لي) فردّت ضاحكة: لا.. لا أعرف أحداً آخر فيها سواك أنت طبعاً، هل تحتاج الى أن أعرّفك بصورتك وشعرك الطويل وتسريحتك الفرق؟. ثم سألتني عن احتفاظي بالصورة كل هذه السنوات، كثير من صورها هي ضاعت، كما قالت، واستفسرت ما إذا كانت لديّ صور أخرى لذلك الحفل قد تكون هي ظاهرة فيها.

ما الذي أقوله لها؟ سألتها: هل تذكرين فعلا أني استخدمت نظارة طبية كما أبدو بالصورة؟ فاستغربت هي كلامي عن نظارة طبية في الصورة، مؤكدة بسخرية مازحة حاجتي الآن، وليس في زمن الصورة، إلى نظارة طبية لأتأكد جيداً أن لا نظارة طبية على عيني في الصورة.

زوجتي هي أيضاً تؤكد أن الصورة صورتي، وأن لا نظارات على عينيَّ فيها. مع هذا لم اطمئن حتى بعد تأكيد صديق آخر كنا متلازمين في تلك السنوات ثم افترقنا.. ذلك التلازم القديم والافتراق بعده يسمح له بالتعرف جيدا على حقيقة الصورة.

لكن كيف اطمئن وأنا لست على يقين من حضوري ذلك العرض المسرحي ولا من شخصيتي في الصورة التي يراد لي أن اقتنع إنها صورتي.

احتفظت بها في أرشيف صوري القديمة، شاكراً الزميل الذي بعث بها إليَّ.. ولا أدري، حتى الآن، متى اقتنع فأدّعي إنها صورتي في حفل عرض مسرحي كنت قد حضرته في جامعة البصرة أواخر السبعينات.