عطر الدم
#خليك_بالبيت
مقداد عبد الرضا /
قبل ايام انتبهت الى احد رجال الدين من الذين ثقلت موازينه يتحدث في امر لم اتوقعه, قال فيما معناه, اننا دائما نحتج على ان فلان الفلاني سرق منا تلك الفكرة ونسبها له او البلد الفلاني اخذ منا ذاك التاريخ ونسبه اليه, وفي النتيجة هل ظل شىء لم يسرق من هذه البلاد ونحن لانملك الا ان نحتج ونصرخ ونشتم ونتهم ولاشىء غير هذا؟ الى هنا انتهى حديث رجل الدين, والان إلا يمكن ان نصمت قليلا ونعمل على الذي سرق منا ونحييه بصورة حسنة؟ هناك الكثير من القصص والروايات التي اخذتها بلدان مختلفة واخرجتها بالقراءة التي ترى فيها خدمة لها, خذوا مثلا مسرحية شكسبير هملت, كم من بلد اخذها وانجزها بقراءة مختلفة, البعض منا يشبه (اذهب وربك) بعض الحياة تحتاج الى اعادة تاهيل والعمل بصمت.
سوق باريسي لبيع الاسماك كل مافيه يوشي بالنتانة والعفونة في شتاء العام 1738 حيث يصرخ جان باتيست غرينوي صرخته الاولى بطريقة بشعة بعد ان لفظته امه القاتلة لاولادها الاربعة الذين سبقوه, قطعت حبل وصله بسكين قذرة ثم دفعته بقدمها الى فضلات السمك التي يعج بها السوق, كان يمكن هو الاخر ان يلفظ انفاسه لكنه وعلى مايبدو يقترب من طبيعة الام القاتلة اننا اذا امام ولادة جريمة, منذ البداية التي اختارها المخرج توم تاكفوير والتي هي خلافا لسرد الرواية, نجد ان وجها يغرق في العتمة الا ذلك الانف, انف غرينوي الذي سيقوده شبق الرائحة وليس الجسد الى القتل, فجاة نجد انفسنا امام صراخ اهالي الضحايا, الجميلات اللواتي اختارهن غرينوي ليصنع من اجسادهن بعد التقطير عطرا اخاذا, يعود المخرج بعدها الى سرد الرواية عن طريق الرواي (احسبه ضعفا), ينشأ غرينوي في نزل للايتام يوحي هو الاخر بالخراب وتقلب في اعمال عدة وبيع في اخر المطاف الى غريمال ذلك الافاق الذي استغله ابشع استغلال, انف غرينوي هو الذي ابقاه حيا ودفع بامه الى الموت, سوق السمك بتفصيلات بشعة تتناغم مع انفاس الطفل الذي يرقد بين القذارة, فضلات الاسماك, تدفق الدم من راس سمكة هوت امراة عليها بساطور فصل الراس عن الجسد بلذة بالغة, الاحشاء, كلب ينقض على تلك الاحشاء بنهم, غرينوي يتنفس وكانه يمسك بقوة بزمام الحياة من خلال تلك المشاهد, بل لنقل تلك الروائح, جرذان تلهو بين تلك القاذورات, شبق الروائح يدخل الى رئتي الطفل فيمتلىء حياة, خنزير مذبوح معلق, تمتد الايدي لتخرج احشاءه, يصرخ غرينوي, يرغم الحياة على ان تهبه فضاءا واسعا, لكنه فضاء سنكتشف لاحقا انه للقتل حينما يضع يده في احدى المرات وهو ممد مغمض العينين على قطعة من الخشب, ليقول, خشب, انها رائحة, رائحة من ؟ رائحة امراة, دفعة و احدة وكانما حواسه جميعا تتحول الى انفه لتطير الى ذلك المكان الذي تسكنه تلك المراة صاحبة الرائحة, ينقض عليها لتموت ويحولها الى عطر يلتهب شبقا, مع المراة تاتي البداية, هاي الانثى, بجسدها العامر, العنق, القفا, الشعر, الثدي, انها امراة من خلال الشم, شم رائحة ذراعيها, يتبع الرائحة حتى النهاية, شوارع, بيوت, حارات, ازقة معتمة, يلهث غرينوي خلف تلك الرائحة, هاهو يقف خلف انثاه, تهرب, تختفي, يستدل عليها من خلال انفه, يجدها تقبع في زاوية معتمة, يده تمتد اليها, تصرخ, وبردة فعل يطبق على فمها وانفها لينهي بذلك وجودها, هاهو الجسد مسجى عاريا امامه, جسد يلتهب انوثة لاحصر لها, لكنه ليس معينا بكل هذا, انها رائحتها فقط, لقد خففت تلك الرائحة من الامه حينما اشتراه غريمال من دار الايتام ويعانق جسده بالسياط, لقد سار غرينوي في الدم حيث لايمكن الرجوع كما في مكبث, قتل فلاحة ووضعها عارية في الة التقطير, احدى بنات الليل ذهبت معه لكنها خافت حينما احست انه يروم دهن جسدها, هربت, تبعها من خلال انفه عثر عليها وبهراوة في مؤخرة راسها انهى حياتها, يلفها بقطعة قماش وانتظرها حتى اذا ما اختمرت تحولت الى رائحة عشق, لورا الجميلة هي قطب تفكيره, يتبعها الى النهاية, حتى اذا وصل اليها ذبحها وقطر جسدها ومزجه مع عبق العذارى ليسلم نفسه في النهاية الى الشرطة, يذهب غرينوي الى المقصلة, يصعد وهو يلوح بمنديله المعطر الى تلك الجماهير الغاضبة ليحولها الى ضحايا, انه العبق الالهي الذي نز من اجساد العذارى, اخيرا يمكن القول ان المخرج نجح الى حد ما في ايصال روح الرواية, لكنه بالتاكيد اغفل الكثير من الاحداث مجبرا حيث لايمكن للسينما ان تستوعب احداث رواية بكاملها, رب سائل يقول اين المتعة البصرية مع كل هذا الدم, نقول انها تكمن في ذلك السحر الذي بعثته الانارة لتجسد لنا اروع لغة في الكون الا وهي لغة الضوء والظل .. فيلم العطر واحد من الافلام الذي يستحق المشاهدة.
النسخة الألكترونية من العدد 360
“أون لآين -3-”