علي أبو عراق يكتب عن: وقائع أهل الماء وأهل النخيل

448

باسم عبد الحميد حمودي /

بين علي صويح وحمد آل حمود تنشطر مئات الحكايات الدالة على الحكمة والصبر واستنهاض الصور التاريخية الشعبية التي صنعت أجزاء واسعة من بنية البناء الاجتماعي لمدن بادت، مثل الحسكة، وشخصيات قاومت السطوة العثمانية مثل (أبو الغمسي وسواه).
الكاتب (علي نكيل عليوي) الشهير باسمه الأدبي (علي أبو عراق ) قدم للقارئ العراقي عدداً من الكتب التي نقلت الوقائع الشفاهية إلى مادة مدونة تعد جزءاً مهماً من التاريخ الشعبي العراقي في بيئته الجنوبية التي يتعايش فيها النخيل مع بيئة الأهوار المجاورة التي تحادد أرض النخيل , تجاورها وتحاورها، لكنها لا تتداخل معها, إذ أن بيئة النخيل الطينية صنعت لذاتها كياناً اجتماعياً وزراعياً يقف كشخصية درامية واقعية بشكل شبه مستقل عن بيئة الهور المنفتحة الكثيرة التفاصيل.
شاعر وراوية
بدأ علي أبو عراق منذ سبعينيات القرن العشرين النشر كشاعر تستهويه المفردة الشاردة شعبياً أو باللغة الفصحى, إذ أصدر أربعة دواوين هي: (ما يقترحه الغياب)، و(من)، و(نهير الليل)، و(باكراً أيها الغروب), ثم جاء كتابه (مثنويات) تجربة في الفرادة الشعرية الصوفية التي تتجاوز المحلي الواقعي الحسي إلى عالم أثيري من الحب والخيال واكتشاف الدهشة.
مقامات الماء – مقامات النخل
هما كتابان يتبعان كتاب (مثنويات )، كان الأول فيهما (مقامات الماء) الذي صور مجموعة من وقائع وأحداث وتجارب الأهوار العراقية بلغة شعرية تتداخل فيها الوقائع مع الخيال, وقد كرر هذه التجربة في كتابه التالي (مقامات النخل) الذي قدم فيه مجموعة من الوقائع الشعبية التي جرت في بيئة النخل الممتدة على شط العرب وما يسبقها من أراض عامرة بالنخيل الذي لبيئته تقاليدها وأعرافها, وبالتالي حكاياتها الأثيرة المتداولة التي تغدو- أو هي غدت – جزءاً من تاريخها الشعبي.
شفاهيات من الموروث العراقي
بدا واضحاً أن تجربة علي أبو عراق في الكتابة التسجيلية للمرويات الشعبية قد أصابها النجاح المطلوب، فاستخرج خزائن أخرى في كتب تالية لقيت اهتمام عارفي فضل هذه الكتابات التي تحاول ردم الهوة بين الموروث العامي المتداول شفاهاً وبين الواقعة التاريخية الشعبية.
إن التاريخ الشعبي لا يكتبه مؤرخو السلطة أو كتبة المكاتب من ذوي الياقات البيض، بل يكتبه أهله المستنيرون الذين عاشوا الحرمان والألم واحترقوا بنار الوعي والتجربة الثقافية الواعية ليقدموا لنا هذه الشفاهيات التي دونها واحد منهم هو الشاعر الراوي علي أبو عراق.
من شفاهيات الجنوب
في الحكاية الأولى من كتاب (شفاهيات من الجنوب)، التي جاءت بعنوان (نجمة الصبح )، ينقل الكاتب صورة أولى لمجتمع الهور وهو يعمل, إذ (تستيقظ الحياة بكل عنفوانها لتخوض شوطا جديدا)، فيما تكون الشمس الساطعة مقاومة لبقايا العتمة والماء يطرطش على حافة التهلة، (والتهلة هنا هي الأرض التي تتكون بمرور الزمن وحيدة فوق مياه الهور)، حيث يبدأ الصيادون عمل الإفطار الصباحي المكون من الطابك (خبز الرز) والسمك الطازج، أو أي نوع من الطيور، ثم الشاي.
وسط جلوس الصيادين الذي اجتمعوا صباحاً من شتى التجمعات العشائرية يدور نقاش حول نجمة الصبح, فيقول أحدهم إنها نجمة بريهة (نسبة لقبيلته)، ويجادله الثاني غاضباً أنها نجمة نيس (ونيس قبيلة مجاورة)، ويشتد الجدل ويتحول إلى عراك بالأيدي ثم بالعصي والسلاح الأبيض فيسقط من الطرفين قتلى وجرحى.
يتدخل أبناء عشائر أخرى ويوقفون النزاع ليأتي دور (الفصل)، والدية هنا نساء وجواميس, ويكون من نصيب الحسناء (عنكة) أن تكون واحدة من فصليات عشيرة بريهي إلى عشيرة نيس, وهو زواج كأن مألوفاً في الأزمان السابقة حاربته الأعراف الإنسانية ووقفت ضده, لكن الجهالة القديمة بقيت سارية حتى يومنا هذا رغم المنع القانوني للفصلية .
المهم أن (عنكة) أنجبت صبية وبنات عند آل نيس, الذين قرروا يوماً أن يهاجموا آل بريهي ليشفوا غليلهم منهم ثانية, واستطاعت (عنكة) التسلل إلى أهلها لتخبرهم أن أهل زوجها قد أعدوا العدة لغزوهم وذبح عدد منهم.
عادت (عنكة) إلى بيتها وقد أعد أهلها العدة لغزو آل نيس, وفي الفجر قاموا بهجومهم المباغت فقتلوا من قتلوا ونهبوا الجواميس وبقايا الحلال وفتشوا بيوت (العدو) بيتاً بيتاً ليجدوا ابنتهم نائمة على صغارها حماية لهم من الموت, ودار نقاش بين الغزاة حتى اقتنعوا بالعفو فصرخوا (خل عنكة تنام على جراها) وأصبحت الصرخة (هوسة) وأصبحت الهوسة مثلاً معناه أن ابنتهم عنكة آمنة إذ نامت على أفراخها .
إجت تمشي وساترها بختها
وتستمر الحكايات المروية وأمثلتها، ومنها حكاية الشيخ العاشق الذي أحب صبية من جيرانهم كانت مخطوبة لابن عمها، لكنه خطبها أيضاً! وكان شيخاً مهاباً تولى ولده الأكبر أمر الخطبة، لكنهم أعلموه بالأمر وارسلوا شقيقتها التوأم لتمر أمام الشيخ العاشق الذي أنشد قائلاً:
أجت تمشي وساترها بختها
اتّخطه ونار البكلبي بختها
ياهو الكال أبدلها ابأختها
شلون الذهب والفضة سوية
وهكذا يرفض الشيخ هذا العرض ويظل قلبه العاشق حزيناً. لكن الأدب الشعبي وحكايات المضايف كسبت حكاية جميلة ومثلها الشعبي الخاص.
وتمضي الحكايات المرتبطة بالتاريخ الشعبي للعشائر والأسلاف, إذ تروي حكاية تالية وصول قبيلة شيخ إلى نهر المشرح لإنقاذ قريب لهم من ظلم وقع عليه، وعقابهم لآسريه عقاباً ندم عليه الشيخ بعدها. وتروي حكاية (مطلوب ميري) مهارة شيخ من الشيوخ في رفع ضريبة الميري المفروضة عليه ذلك العام وذلك بتسلله إلى بيت الحاكم العثماني لمدينة العمارة ودخوله غرفته الشخصية لفضه نزاعاً كان قائماً بينه وبين زوجته التي كانت تستخدم الحذاء.. للتفاهم.
أصلح الشيخ بينهما وهما مستغربان من دخوله، لكنه شرح الموقف وحالة اضطراره مطالباً برد الجميل ورفع الضريبة عنه بعدما صالحهما، واضطر الحاكم للموافقة على رجاء الشيخ وهو يستذكر وقع حذاء الزوجة المصون.
ربما كانت هذه الحكاية موضوعة أو مصنوعة للنيل من سمعة الحاكم، لكنها تروى رغم ذلك للانتقام من سلطة ما ولإثبات قسوة الضرائب وبراعة الشيخ .
وفي حكاية (الجاسوس ) نقرأ جزءاً من تاريخ الحكم الإنكليزي في الجنوب حيث دسّوا جاسوساً في سلف جاءهم على هيئة رجل جائع يدعى (صفر) وعمل لديهم راعياً للدواب لسنوات, حتى اختفى يوماً وعاد مع الحملة البريطانية على المنطقة ليحكمها بعد معرفة متكاملة لتفاصيلها.
أيشان حوفي
في حكاية (أيشان حوفي) تقرأ صورة للعلاقات الاجتماعية لدى مجاميع الهور من صيادي الأسماك وعلاقاتهم بعطاري السلف وأنواع الصيد والسمك وصولاً إلى مجيء (الموحان)، وهو الفيضان الكبير الذي دمر أكواخ الصيادين فتركوا مواشيهم ناجين بأنفسهم إلى مرتفع (أيشان) يحطون عنده بعد ساعات خوف وتعب. يتفرق الجمع على السهل لقضاء الحاجة وتعثر (اعزيزة) على جرة تحت قدميها مملوءة ذهباً فتأخذها بين ثيابها مرعوبة خوفاً من الجنّي القادم الذي سيحاسبها، وما إن أمنت أن لا شيء يطاردها حفظت قطع الذهب التي حصلت عليها من الجرة ولم تكشف سرها حتى زوجت واحدة من بناتها فأعطتها قبضة على شكل حيوانات وأشكال أخرى وبذلك ذاع سر اعزيزة بين الناس.
إن (شفاهيات من الجنوب) لعلي أبو عراق ليس كتاب حكايات، بل هو بحث سردي جميل في وقائع حصلت داخل التاريخ الشعبي للأهوار وفيه الكثير من مناقبيات البحث الأنثروبولوجي الذي يمنحك تفاصيل العلاقات الاجتماعية المتعددة الأطراف في ارض الأهوار و(تهلاتها) ومياهها المترامية التي تحوي أسرار الحياة فيها.