علي الجندي.. شاعر سوريا.. الرجيم الجميل

1٬067

عادل محمود/

وأنا أفتش في أوراقي، عثرت على صفحتين بخط يد علي الجندي كتبها في فندق تونسي، وصفاً لبعض الشعراء والرسامين والكتاب الموجودين في جلسة من جلسات علي الحميمة والضاحكة. وكنت بينهم. “كل من تعرّف إلى هذا الشاعر أدرك أنه من الأشخاص الذين يتقصفون كأغصان الشجرة الضخمة غصناً وراء غصن، حتى يبدو عليها فقط ظهورها في المدى اللامجدي لحقل الحياة، مؤكدة، لفرط رسوخها، كم كانت على قيد الحياة”.

كان يقول لمن يسأله عن الموت: “الموت لا أخافه ولكن أن نشيخ..هو العار بذاته”!

كان علي شديد الاهتمام بمن وما يظهر على وجه الأرض من أزهار الشعر…والشر. ولذلك كان يحتفي بهذه الأزهار في برنامجه الإذاعي، المعمر طويلاً، بصوته الشجي، وهو يقرأ كأنما هو المؤلف… كأنه شريك لحظة العاطفة للشاعر الذي يقرأ له. وكان علي الجندي حاضراً دائماً كلوحة فائقة الألوان، دائمة الحضور، علامة على الحلم الجميل ببلاد جميلة وعادلة وبشر سعداء يمتنعون عن قطف النجوم احتفالاً بكونها أجمل وهي في سقف السماء، الحلم الذي أحياناً يلاحق إمرأة، أو جمالاً غامضاً، أو ثقافة تتسع لكل الناس وتنشر ما يطمحون إليه من الحرية والاكتفاء، الذي يجعل عفتهم عفة الشبعان، الممتن والشاكر. ذات مرة تلفن وقال لي: اسمع برنامجي اليوم. واستمعت إليه وهو يقرأ بصوته المنفعل والشجي، مقاطع شعرية وقصائد مختارة لي. وعندما انتهى البرنامج تلفنت له وقلت ممازحاً: علي، لمن هذه الأشعار؟

كان صوته وطريقته في الإلقاء يجعلان الشعر وردة صوتية في وجدان المستمع الليلي، بل أكثر من ذلك..كان أي كلام بصوت والقاء علي، يتحول الى شعر. مرة ألقى علي قصائده في السلمية- مدينته(مدينة الشعر والشعراء..فايز خضور. محمد الماغوط. أحمد الجندي .سليمان عواد.) وعند وصوله إلى مقطع عن السلمية، كواحدة من جراح الحرية على الخريطة السورية… بكى علي كما لو أنه على قبر، ولم يستطع اكمال القصيدة، فصعد إلى المنبر الشاعر ممدوح عدوان وأكملها. طبعاً، لاحقاً، كان ممدوح يقول له متغالظاً: أنا أنقذت الشعر والشاعر. ومن طرائفهما أن علي قال يوماً لممدوح: مت لارثيك بقصيدة. فأجابه: مت أنت قبلي لارثيك بديوان. ولكن لم يرث أحد منهما الآخر، لأن ممدوح رحل قبل علي، بينما كان علي قد اوقفه العمر… الشيخوخة (العار) عن الكتابة.عندما مات علي الجندي..(هل مات؟) انبعث صوته في أذني متدرجاً طوال سنوات ثلاثين، كنا نسمعه في كل قصيدة وهو يدفع إلى المجهول كلماته الحزينة. وانتشرت فجأة ضوضاؤه الفرحة في ذاكرتي، وهو يتطرف في قول ما يريد. ورنت أشعاره الحزينة، الحزينة دائماً، من صمت فراغ النبأ.

عندما آوي إلى آخرتي المنتظرة

امنحوني شكل موتي

رحلتي المنكسرة

ودعوني أرتوي، أسقي خلاياي بظل المقبرة.

أرتوي حتى أرى في

ظلمة الدنيا حزن الآخرة

وأرى الموتى يخفون لكي يستقبلوا فارساً يجهل رؤيا خطرة

مقبلاً

سكرانة خطواته.

حنقاً يجعل من عالمهم/ للمجانين الذين انخذلوا مستعمرة.
علي مات ليس من الشيخوخة وانعدام الأمل فقط. في الحقيقة مات علي من الإهمال، من العنوان المعلق في فراغ الجدران في بيته: عنوان “المتروك وحيداً”،

ما أقساه هذا العنوان والحقيقة ما أقساها. فالشيخوخة لا تهجم على الشاعر وحده، بل تصيب، أو تكون قد أصابت، الحماس والتفتح والزهو فيمن حوله. وانعدام الأمل ليس فرضية، أو صلاة يأس عميم، بل فكرة فروسية عن المهمة التي يقوم بها الشاعر…بدلاً من الوطن، وقادة بؤسه وخرابه. فكرة الزمن وأفعال الزمن. في رحلته الطويلة أصغى علي إلى ملذات الحياة وأحلامها الكبرى، وعندما نقصته الحياة قليلاً يوماً، شكاها في نص محتشد بالآلام، راثياً ما لم يكن سوى الموت. الموت أو الموات.

إنه يذكرني بهذه الجملة الساطعه للكاتب الألماني بريخت:

“لاتخف من الموت …بل من الحياة الناقصة”

غياب علي كان يضعنا أمام الوداع السحيق لأزمنة الشعر واحترام الشعر، ولذة الشعر.”لم يعد للشعر مكان على سطح الأرض” هكذا قال في أوائل أيام الصمت. من يعرف علي الجندي من الصعب ألا يؤلمه أنه مات، ومن الصعب أن ينساه. ومع ذلك لم يحضر جنازته من كل أدباء وشعراء سوريا(من خارج السلمية – بلدته) سوى الروائي نبيل سليمان وأنا. دائما…كلما تذكرت أبا لهب، أحس الرغبة في قراءته كأنما الحزن في شعر علي مطهر معنوي يجمّل القدرة على احتمال هذه المهنة العسيرة …الحياة.
هذا زمان الحكايا الرديئة
وتحت فروع الفلاسفة الصيد يورق صخر الخطيئة