عملية إعمار الموصل تسير كـالسلحفــــاة!

885

إياد عطية الخالدي /

بعد عام ونصف العام على تحريرها من تنظيم “داعش” الارهابي تبدو الموصل القديمة خاصة مدينة أشباح، يخيم على احيائها الموحشة سكون مخيف وتغلق ازقتها الضيقة أنقاض مبانيها المحطمة التي تشكل لوحة سريالية لمدينة خرجت من ظلمات التأريخ الى عالم مختلف، فيما تسير جهود إعادة الإعمار كالسلحفاة بالقياس الى حجم الخراب الكبيرالذي طال كل شيء في المدينة ابتداء من بناها التحتية حتى جسورها وصروحها العمرانية وآثارها العريقة وجسورها وأسواقها القديمة، وتزداد المخاوف من أن الاموال المخصصة لإعمار المدينة على قلتها قد تضيع في مناخ الفساد وسوء الإدارات وتعددها. لم يتبق من سوق السرجخانة، احد أقدم اسواق الموصل الكبيرة التي كانت تضج بالحياة وحركة المتبضعين، سوى اطلال، فقد شهد السوق اعنف المعارك بين القوات العراقية وتنظيم “داعش”. صورة الخراب هي الصورة الأكثر وضوحاً لاسيما في المدينة القديمة التي حطمت تسعة شهور من الحرب كل مبانيها، ومع هذا فإن السكان تدفعهم رغبة كبيرة لبث الحياة من جديد في مدينتهم، فثمة أيدٍ تعمّر هنا وهناك فتنهض محال وبيوت من بين الركام.. انه التحدي الذي عرف به أهالي هذه المدينة التي تمتد جذورها عميقا في التأريخ، وكمن يشعل شمعة في الظلام بادر (صهيب العطار) و(علي العطار) الى ترميم محالهم وصبغها، فظهرت كلوحة بألوان مشرقة بين تلال من الأنقاض التي تسد منافذ شوارع سوق السرجخانة.

مشكلة الأنقاض

لاتبدو جولة فانت بين اطلال مدينة فقدت ركائز تمدنها، فلا مبنى عامراً ولاحديقة زاهرة، كل صروحها محطمة حتى مبنى المحافظة الجديد سوِّي بالأرض ولم تتبق منه سوى كومة حديد، تحول الى تجارة شغلت عدداً من العاطلين، فهناك من تولى عملية جمعها ودفعها الى معامل في مدينة اربيل المجاورة حيث صار مادة اولية لتشغيل معامل الحديد التي انتعش عملها في اربيل، وحتى الصبية الذين تركوا المدرسة وجدوا في جمع مخلفات المباني فرصة عمل لجمع النحاس وبيعه بأسعار بخسة تكفل لهم رغيف الخبز.

مبنى (اورزدي باك) احد المباني الذي نال شهرة في زمن بهاء الموصل حيث الذكريات الجميلة، وعاد في زمن تنظيم”داعش” لينال شهرة اكبر لكنها شهرة معجونة بالدم والجريمة، فهنا كان التنظيم يعدم معارضيه برميهم من أعلى البناية الى الأرض فتتحول البناية بعد كل حفلة اعدام الى مستنقع دم.
عيوننا الملتصقة بالمباني اوحت لـ(محمد توفيق) صاحب احد المحال بأننا مسؤولون في البلدية او عن الإعمار فطالبنا بإزاحة الأنقاض التي تناثرت من عمارة بجوار محله كي تتيح الحركة لزبائن قليلين ومحدودين في أحياء هجرها أهلها وفقدت مقومات العيش الطبيعي.
الواقع أن المحافظة وبلدياتها تبذل جهوداً وثمة جرافات قليلة كانت ترفع الانقاض وتنظف احياء خزرج وباب الطوب والشعاريين والساعة والبدن، لكن العمل كان يتسم بالبطء ولايتناسب وهول الخراب الكبير.

يؤكد محافظ الموصل (نوفل العاكوب) أن المحافظة شرعت منذ تحرير الموصل بعدة حملات لرفع الأنقاض وتنظيف المدينة، لكن حجم الدمار والمخلفات التي حدثت بعد الحرب كبيرة للغاية ولا يمكن رفعها بسهولة، وفضلاً عن جهود بلدية الموصل فإن المتطوعين والمنظمات شبه الحكومية شاركت في أكثر من حملة لرفع الأنقاض ومخلفات الحرب، وقد شجعت تلك الجهود العديد من العوائل النازحة على العودة الى الموصل.
يقول مدير قسم هندسة الإدارة المحلية (جمال سلو) إن حملات رفع الأنقاض وتنظيف المدينة لن تتوقف، ففي آخر حملة دفعنا بأكثر من 300 سيارة حمل لرفعها وفتح الشوارع في أحياء المنطقة القديمة.

وعلى الرغم من مرور عام ونصف العام على تحرير المدينة يبدو الجهد الحكومي في رفع الأنقاض بطيئاً ويرجع (سلو) أسباب تأخر عملية رفع الانقاض إلى عدم وصول التخصيصات المالية اللازمة للقيام بها، ويلفت الى ان مئات العمال في انتظار صرف مستحقاتهم المالية التي خصصتها بغداد ولم تصل بعد.

مياه الشرب

يؤكد علي العطار أن المياه وصلت قبل مدة قليلة الى العديد من الشوارع الرئيسية في المدينة القديمة، بعد ان عاش من تبقى من السكان هنا في وضع مأساوي وهم يكابدون للحصول على مياه ليست صالحة للشرب من خلال حفر الآبار الارتوازية. وحتى هذه العملية تعد مكلفة للسكان الفقراء الذين عاد اغلبهم للمخيمات حيث تقدم المنظمات الإغاثية هناك لهم الدعم وتوفر لهم المياه الصالحة للشرب.

ويعزو المسؤولون في المحافظة أسباب نقص المياه الى تكسر انابيب نقله، ولهذا تعمد مديرية الماء في المحافظة الى توزيعه عن طريق آليات المديرية بين المنازل والأحياء، مع مشاهد خزانات الماء المختلفة الأحجام التي وفرتها المنظمات الإغاثية تنتصب في كل زقاق لتوفير المياه لسكانه، بيد ان عودة السكان تعني مضاعفة الحاجة الى المياه وهي حاجة لن تغطيها تلك الخزانات الصغيرة.

عاطلون

أغلب الشباب هنا يعانون البطالة، وخلق فرص عمل امر خارج قدرة الحكومة المحلية في المحافظة، الشباب يصنعون بسطات لبيع الشاي وبسطات صغيرة لبيع السكائر وحلوى الاطفال، لكن من يشتري؟ في مدينة تستعيد حياتها ببطء ومازالت تئن من جراحها.

وحتى العوائل التي نكبت في الحرب وذهب سكانها ضحايا للحرب مازالت تنتظر تعويضات تشكل لها أملاً لبدء حياة جديدة، فعائلة (ابو ابراهيم) مثل مئات العوائل التي فقدت افرادها في الحرب لكنها مازالت على قائمة الانتظار رغم انها دخلت نفق الروتين منذ اكثر من عام.

الجثث المتفسخة

على الرغم من افتقارها الى المعدات والتجهيزات والآليات الحديثة، فإن الجهود التي تبذلها فرق الدفاع المدني لاستخراج جثث الضحايا تلقى الإشادة من مواطني المدينة القديمة، إلا أن روائح الجثث المتفسخة مازالت تنبعث من تحت الأنقاض ومن الحدائق والساحات التي حولها السكان الى مقابر جماعية لقتلى الحرب والتفجيرات، ويذكر السكان ان الحرب قضت على عوائل بكاملها، فعائلة (لازم محمد يونس) لقي 12 فرداً منها حتوفهم.

(صدام احمد)، الذي يعيل عائلة فقيرة، عاش لعدة أشهر في سرداب جمعه مع عوائل محاصرة نال منها الجوع والعطش وكان ابنه عبد الرحمن يتسلل ليجلب الماء من بئر قريبة قبل أن تقضي قذيفة سقطت بالقرب منه على حياته.

كما لقيت عائلة (علي سلو) و(لازم ابو سعد) حتفها بالكامل بعد ان فجرت انتحارية تونسية نفسها بين العوائل وقوات الشرطة الاتحادية بالقرب من جامع النوري.

تشير تقارير لمنظمات محلية ودولية غلى أن أعداد الجثث التي لم تنتشل من أحياء الموصل القديمة مفزعة للغاية، وان المحافظة لا تمتلك تصوراً كاملاً عن حقيقتها ولاتعلن عن ارقامها، بينما تزداد المخاوف من أن يؤدي تفسخ الجثث الى انتشار الأوبئة والأمراض في مدينة تعاني بنيتها الخدمية والصحية من عجز وتهرؤات كبيرة وليس بوسعها ان تواجه تلك المخاطر المحدقة بالسكان.

وعلى مايبدو فإن المسؤولين في المحافظة لايضعون هذا الملف في قائمة اولوياتهم، ويشخص السكان وجود تقصير واضح في عملية انتشال جثث الضحايا، التي تتولاها بسبب هذا التقصير فرق تطوعية لا تمتلك الخبرة الكافية في طريقة انتشال الجثث والتعامل معها.

شارع الأسدي

في وسط المدينة القديمة نصبت خيمة، مثلت مركزاً يهدف الى جمع التبرعات من تجار المحافظة بهدف تقديم العون للمواطنين الذين تحتاج منازلهم الى ترميمات.وبحسب القائمين على هذه المبادرة التي اطلقها محافظ الموصل نوفل العاكوب فإنها اسهمت بترميم نحو 400 دار صغيرة في المنطقة القديمة. لكن عامر ذنون وعلى الرغم من اكماله كل الاجراءات التي تطلبها المبادرة لم يتمكن من الحصول على مايساعده في على اعادة بناء داره، ويؤكد انه يسكن منذ تحرير المدينة في بيت صغير للايجار بالجانب الأيسر يكلفه نصف راتبه تقريباً.

المشرف على الخيمة (فدعم جبر الحيالي)، وهو رئيس جمعية الشعراء في نينوى، يستقبل طلبات المواطنين والمتبرعين على السواء. يقول مساعده (رياض عريبي)، وهو شاعر شعبي: نستقبل في الخيمة طلبات المواطنين وشكاواهم، مبيناً ان هنالك مواطنين يسعون فقط للحصول على مواد البناء لترميم دورهم الصغيرة التي تتراوح مساحتها مابين خمسين الى خمسة وسبعين متراً او نوفر متبرعاً يتكفل ببناء عدد من الدور.

العريبي نصح ذنون والمواطنين القريبين من جامع النوري بالصبر والانتظار لأنهم مشمولون بالمنحة الإماراتية المخصصة لإعادة بناء جامع النوري والدور المحيطة به.

وكانت دولة الامارات العربية قد وقعت عقد شراكة مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو”، يتضمن إعادة بناء وترميم مسجد النوري الكبير ومئذنته الحدباء بكلفة خمسين مليوناً وأربعمئة ألف دولار، واشتملت على ترميم الدور المحيطة بالجامع.

ذاكرة

ويحتفظ (عامر السويداني) بتسجيل “فديو” يصور احدى ابشع جرائم داعش وهم يقومون بعملية نحر لشقيقه حامد أمام جمع من الأهالي في حي الزهراء بعد ايام من احتلال داعش للموصل بتهمة التعاون مع الحكومة العراقية واتهامه بقتل 18 من عناصر التنظيم الإرهابي .

يشعر سكان الموصل بكثير من الامتنان والعرفان للقوات الأمنية العراقية من الجيش والشرطة والحشد ولكن قوات مكافحة الارهاب تحظى بتقدير كبير، ويحتفظ السكان بصور مع قادة جهاز مكافحة الإرهاب كعبد الوهاب الساعدي ومعن السعدي وعبد الغني الاسدي الذي اطلق اسمه على احد شوارع الموصل الذي كان تنظيم داعش يسميه بشارع الخلافة تقديراً لدوره في انقاذ الموصل من براثن التنظيم الوحشي.

مطارق الحدّادين

الحياة تدب في سوق الحدادين، فقد عاد اصحاب المحال في السوق الى العمل حيث يصنعون هنا عدد البناء، وكأية منطقة في المدينة القديمة تعرض السوق الى دمار واسع، يفاخر العاملون في هذا السوق بأبطال العراق من (عائلة الحسون) نزار وطلال وعدنان حيث كانوا ابطال العراق على نطاق آسيا حيث نال نزار وساما في بطولة اولمبياد آسيا.

ويسعى مركز نينوى للاستشارات والبحوث على أن تجري عملية الإعمار بوتيرة متصاعدة ووفقاً للاولويات وقد نظم المركز العديد من المؤتمرات لهذا الهدف جمعته مع الجهات المعنية بإعمار الموصل وبينها المؤتمر مع صندوق اعمار الموصل.

رئيس صندوق الموصل اكد ان الصندوق رغم التحديات التي يواجهها قد نجح باعادة اعمار 19 مشروعاً تشغيلياً و14 مشروعاً استثمارياً بكلفة 25 مليار دينار عراقي.

وجرى تنفيذ العديد من مشاريع الاعمار بدعم جهات دولية لعل في مقدمتها البنك الدولي الذي قدم قرضاً لإعمار الجسر القديم وجسر المثنى الثاني والجسر الرابع وبكلفة اربعة ملايين ومئتين وتسعة وسبعين الف دولار نفذتهما وزارة الإعمار والإسكان.

وفي قطاع الكهرباء جرى تجهيز محطات متنقلة ومستلزمات أخرى بمبلغ (7.531.894) دينار، كما يوجد مشروع مشترك لكهرباء نينوى والانبار لإعادة تأهيل محطات كهرباء وتجهيزات بمبلغ اجمالي (17.819.812) دينار عراقي. وعلى نفس القرض تم تخصيص مبلغ (20) مليون دولار مخصص للبلدية.

مخاوف

وعلى الرغم من ان الأموال التي تتدفق الى المحافظة ليست بحجم التوقعات، لكن المخاوف تزداد من هدرها وضياعها في مناخ يستشري فيه الفساد. وفي هذا السياق اعترف مدير بلدية الموصل، (عبد الستار الحبو)، بوجود حالات فساد في مشروع تنظيف الساحل الأيسر للمدينة الذي تموله منظمة تابعة للأمم المتحدة.

وثمة قلق من أن الأموال التي جرى تخصيصها للمشاريع التي نفذت مبالغ فيها، وأن يد الفساد مازالت هي اليد الطولى في كل مشروع يطرح، بيد أن قائممقام الموصل زهير الأعرجي يقلل من المخاوف ويتحدث عن آلية تعدد القنوات المشرفة على الاعمال والى مشاركة الجهات المتبرعة في مراقبة انفاق عملها، وهو على مايبدو افضل الاجراءات التي اعتاد الفاسدون على التلاعب بها.

وعلى اية حال، فإن هذه الآليات مفيدة في الحد من الفساد ومن الانفاق غير المفيد والمبالغ فيه، على الرغم من أنها ستزيد من الروتين. ولسوء حظ الموصل ان البلد والمنطقة يمران بأزمة مالية وان الفساد يضرب بقوة في مؤسسات الدولة وكلها عوامل لاتجعل الأهالي متحمسين لموصل جديدة تقوم من بين الركام لتحتل موقعها الحضاري بين مدن العراق والمنطقة.