فنون اللهو والتسلية في المقاهي البغدادية القديمة
هناء العبودي /
لم يعرف أهالي بغداد في أواخر الدولة العثمانية المسرح، ولم يكن العراق يملك النوادي الثقافية والاجتماعية بالمعنى الذي نعرفه الآن حتى منتصف القرن التاسع عشر، وكان العامة من الناس يقضون أوقات فراغهم في المقاهي والخانات أما لتصريف المصالح فيما بينهم أو للتسلية، وقد اشتهرت بغداد بكثرة مقاهيها وخاناتها العامرة…
وقد وصفت بغداد والمدن العراقية وكما ذكر الدكتور علي الوردي بأنها اكثر مدن العالم من حيث عدد مقاهيها وخاناتها نسبة لعدد سكانها، ويذكر السواح الغربيون الذين زاروا بغداد في تلك الحقبة بشيء من الطرافة أن بين مقهى ومقهى يوجد مقهى للدلالة على كثرة مقاهيها.
وكانوا في البداية يكيفون مكاناً في المقهى الى ما يشبه خشبة المسرح يسمى ب(التخت) نسبة الى مصاطب المقهى (التخوت) التي كانت عريضة ومتينة كل اثنتين منها مع بعض، ويذكر يوسف العاني عن هذه المقاهي في أيامه أنه لم يكن مسموحاً للشباب ارتياد المقهى إلا بعد أن تظهر لحاهم.
وكانت هذه المقاهي تتنافس فيما بينها لجذب الزبائن اليها باستخدام القصخونية (جمع قصَّخون) وهم رواة الحكايات والقصص والملاحم الشعبية، وكان بعضها يقدم عروض (القره قوز) و (خيال الظل)، هكذا كان حال المقاهي في العراق حتى بداية القرن الماضي، الا أن بعض هذه المقاهي (لا سيما في منطقة الميدان في بغداد) طورت عروضها وما كانت تقدمه للزبائن على غرار ما كان موجوداً في حلب وإيران من ملاهٍ، فاستقدمت راقصات ومغنيات من سوريا ولبنان ومصر، وكان هذا الاستقدام يعدّ تحولاً نوعياً في الأخلاق الاجتماعية العامة، واقبالاً منفتحاً على فنون كانت ممنوعة علناً. وتحت تأثير هذا التطور الاجتماعي غيرت هذه المقاهي شكل بنائها بحيث وفرت في المقهى أماكن خاصة للرقص أشبه بخشبة المسرح سميت ب(المراقص) مثل مقهى سبع في الميدان وكان ذلك عام 1907وتوالت بعد ذلك المقاهي التي سارت على هذا المنوال كمقهى العزاوي ومقهى السواس.
وتحولت هذه المقاهي وعروض (الشانو) وهي اشبه بالتمثيلية الهزلية الى ما يشبه الأرضية والقاعدة التي أنعشت بذرة تمثيليات التسلية والكوميديات الساخرة، وكان المفهوم الشائع عن التمثيل بين الناس هو فن (الشانو)، وأخذت هذه المقاهي تقدم بانتظام عروض (الاخباري) وهي عروض تمثيلية فطرية ساخرة تقدم ارتجالاً، لها قواعدها وتقاليدها في الصنعة كانت تقدم في الأسواق والشوارع من قبل جماعة من الاهالي، وهم هواة غير محترفين يختارون حدثاً آنياً في المدينة ويعيدون تشخيص هذا الحدث اليوما المختار بشكل هزلي ساخر مبالغ فيه ممزوج بالنكتة والرقص والحركات، ويعلقون على الحدث وقد يبدون منه موقفاً، وأكثر هذه الأحداث سياسية أو اجتماعية، فهو باختصار فن شعبي ناقد بشكل جارح لبعض مظاهر الحياة الاجتماعية المعيشة، يتصف بالعفوية والفطرية، وهو مغرق في القدم من فنون شوارع القرون الوسطى، يصعب تحديد بداياته بدقة.
ومن رجالات هذا الفن الساخر في ذلك الزمان (جعفر لقلق زادة) الذي له فضل المساهمة الأساسية في نقل عروض هذا الفن الشعبي من الشارع والساحات العامة الى حلبات المراقص في المقاهي البغدادية القديمة، ثم تطوير هذا الفن ليقدم على خشبات المسارح. لقد ارتبط أسلوب ( جعفر لقلق زادة) الساخر الهزلي بالمسرح الكوميدي في العراق فيما بعد، وترك بصماته على أعمال كل رواد الكوميديا من بعده، لا سيما كتابات شهاب القصاب ويوسف العاني وعبد الله العزاوي، وعلى الفرق المسرحية، ومنها (فرقة الزبانية) التي تكونت من مجموعة صغيرة من طلاب معهد الفنون الجميلة واشتهرت بتقديم المسرحيات الكوميدية الارتجالية، وكذلك فرقة (14 تموز).
وقد سلط كثير من النقاد والمهتمين بعد 2003 الضوء على هذا الفن المهمل ومن زوايا مختلفة كأنهم يعيدون اكتشافه ويردون له الاعتبار بعد أن أهمله الجميع طويلاً، والنظر إليه على أنه نقطة مضيئة في تاريخ المسرح العراقي.