فيروز في حياتها الخاصة سعيدة أم تعيسة!
ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
قد يكون ذلك جزءاً من جدار الصمت الذي يفرضه الرحابنة أيضاً، كل مخابرة مع فيروز يجب ان تتم عبر الرحباني، كل حديث صحفي بوجوده ووجود أخيه!
ولكن، هل هذه حقائق؟
أمضيت سهرة كاملة حتى منتصف الليل في بيت فيروز.. كعهدي بها كانت نجمة النكتة والبسمة الدائمة.. تتحدث، تقاطع، تجادل، تبدي رأياً، ولا تخفي اعجابها بزوجها وبعبقريته!
ولكن، صحفية أنا.. أنقل ما أسمع، وأسعى وراء الحقيقة، خاصة اذا كانت ظلالاً واشباحاً..
العسكري الروسي وفيروز
وشخصية فيروز التي عرفتها عن قرب هي غير التي يعرفها الناس من خلال احاديثها في التلفزيون والاذاعة والصحافة والمجتمعات الرسمية التي يرتدي فيها معظم الناس اقنعتهم، فتضطر القلة الاخرى لارتداء قناع الحذر والصمت.
وفيروز من هذه القلة.. فهي تكره الزيف الاجتماعي، والنفاق البروتوكولي، وتجد نفسها مضطرة الى الحذر والصمت حتى لا تكون فرصة للألسن الطويلة.
وقد وصفت فيروز ذاتها في هذا الجول قائلة:
– عندما أجد نفسي في جو غريب بعيد، اشعر وكأنني عسكري روسي ارتدي “الكاب”، وأحمل كامل أوسمتي.
وضحكت مع فيروز عندما وقفت امامي ورفعت رأسها وكتفيها مقلدة العسكري الروسي..
فيروز وصيبة العين
وبيت فيروز صورة عن اغانيها التي تزرعك بين النجوم، وتعلقك بخيوط القمر، فيلتها مزروعة فوق تلال انطلياس، ومعلقة بخيوط القمر، يسجد البحر تحت قدميها ويناجي الصحاب اعاليها.
على الدرج سرير قديم لطفل، تتأرجح فيه كومة تراب، ويعرش على حوافيه العريش، على الباب تتدلى ربطة ثوم وحدوة حصان وخرزة زرقاء تحمي من العين الفارغة.
وعندما سألت فيروز عن معنى هذه الاشياء التي تستقبل زوارها اجابت:
– لا أدري شيئاً عن معناها، قالوا: علقيها، فعلقتها.. ورغم “حشريتي” لم أسأل ان كانت هذه الاشياء تجلب خيراً ام شراً لا سمح الله.
* اذن تؤمنين بصيبة العين!
– لا أؤمن.. لكني أؤمن بان هنالك عيناً جائعة لكل شيء رغم ان صاحبها يملك كل شيء، وأنا مع المثل الانكليزي الذي يقول: “لو كانت النظرات تقتل لكانت بعض العيون خناجر”.
ضيوف فيروز الصامتون
الفيلا أنيقة من الداخل، وسقفها المائل يشبه الكوخ المتين، ضيوف عديدون يحتلون المقاعد، بعضهم صامت، وبعضهم يتكلم، أحدهم يتحدث بلهجة انكليزية شكسبيرية: أنا حنون، أحبك، انت لذيذة يا حبيبه، خذي الامور ببساطة، أنا نعسان، اريد أن اذهب معك.
لم يكن هذا الضيف الانكليزي سوى ارنب جميل يتكلم ويصمت عندما تريد.
قلت لها وأنا أتامل مجموعة الارانب في الصالون:
* هل تحبين الارانب؟
– أحبهم بقدر حبي للصمت والطيبة والصفاء.
ثم راحت تحدثني عن ارنبها الثرثار فقالت:
– ذهبت الى الحمراء.. لا داعي لذكر اسم المحل حتى لا تبعث لي دائرة الاعلان في “دار الصياد” بفاتورة حساب.. ولم اكد أرى هذا الارنب حتى قررت شراءه، وعندما سألت عن سعره، قالوا 85 ليرة، ولم أكن احمل نقوداً كافية، وأردت ان اتهرب، وتظاهرت بعدم الاهتمام، وقلت للبائع: هل توجد اصناف أخرى من الارانب؟ أجاب: عندي منهم اكثر مما في كفر ذبيان.. ثم لم يلبث ان سحب خيطاً معلقاً الى جانبه، وراح الارنب يتحدث بالانكليزية.. فقلت: الا ينقلع الخيط؟ فقال: لقد بعت منه مئات ولم يحدث هذا ابداً!
– ومد يده وسحب الخيط من جديد، فانقطع، عندئذ قال لي: خذيه بنصف السعر، وشعرت بالذنب واضطررت لشرائه، وجاء ابن خالة عاصي في المساء لزيارتنا، واصلح ما فسد، وامضينا السهرة يومها مع الضيف العزيز.
قلت لها وأنا أضم الارنب بحنان:
* يبدو انك تقتنين عدداً كبيراً من الالعاب!
– ربما لأنني حرمت منها في طفولتي!
وتبدلت نظراتها، وكأنها تستذكر سنوات طويلة عبر ماضي الألم والحرمان.
زياد الرحباني الصغير
وبدا لي في هذه اللحظة ان أسأل فيروز الأم عن اولادها فقالت:
– عندي اربعة اولاد كبيرهم “زياد” في الرابعة عشرة من العمر، شعلة ذكاء، وخليفة والده في حب الموسيقى والشعر، واشقاء زياد هم “هلي” و”لليال” و”ريما”.
– وقرأت لزياد شيئاً من الزجل اهداه لأمه بعيد ميلادها:
عم بتشتي عيد
يا زهرة المعبد
واسمك يللي غنى
بيغني له العيد
والسقف اللي معمر
من الف سنة
رح يضل يغني
تخلص الدني
وسألتها:
* هل أنت أم ناجحة؟
– أنا أم ناجحة بقدر ما يتسع وقتي لذلك.
سر الشائعات عن فيروز
وأردت ان استفسر عن سر الشائعات التي تدور عنها وحولها فسألت:
* يقال انك فنانة سعيدة وزوجة تعيسة، فهل هذا صحيح؟
– في الحياة لا توجد سعادة مطلقة، سواء في الفن او في الحياة الشخصية، وكل من يدعي ذلك فهو انسان مقنع!
* هل عرفت مرة دموع السعادة؟
– عرفتها على المسرح.
* وما هي أتعس لحظات حياتك؟
– لحظة موت أمي، فقد اكتشفت في تلك اللحظة بداية دروب الحقيقة في الحياة، وابسطها الموت الذي ينهي كل شيء بسكون.
وعدت اسأل عن صحة اتهامات الناس فقلت:
* الذين يعرفونك في جلساتك الخاصة يقولون انك انسانة ذكية، خفيفة الظل، سريعة البديهة، لكن زوجك يتولى الاجابة على الكثير من الأسئلة التي توجه اليك في الاذاعة والتلفزيون والصحافة، فلماذا؟
– ذلك يعود الى السؤال، وعما اذا كان تكنيكياً.. فأنا لا أتحدث في غير اختصاصي.
الشائعات كالوشم لا تنمحي
* يقال انك تتكلمين وتصمتين بارادة عاصي، والحذر والخوف يطبعان سلوكك، فما رأيك؟
– عندما التقي الناس في جو من الاحاديث السياسية أصمت، لأن السياسة ليست من اختصاصي، وعندما يكون جو السهرة على صعيد الاخذ والرد، أفضل الحذر حتى لا ينسب الي كلام لم أقله، انني فيروز اشعر بمراقبة الحضور فاضطر الى السكوت، ومن هنا تبدأ الشائعات عني وعن زوجي، والشائعات كالوشم لا تختفي ولا تمحى..
* ويقال ايضاً ان الحزن رفيقك وصديقك، فما هو ردك؟
– يصادف ان امثل دوراً حزيناً جاداً على المسرح فيقال انني حزينة، وعندما مثلت دوراً مرحاً في “الشخص” قالوا: تحركت اكثر مما يجب.. اذا كان الدور جدياً، لا استطيع ان اكون “كراكوز”.
* يغار الزوج على زوجته.. في الغالب لأن اسمها يرتبط باسمه، ولأن بينهما مصلحة مشتركة، فهل يغار زوجك كغيرة هذا البعض على زوجاتهم، ام ان غيرته هي غيرة حبيب على حبيبته؟
– في الحياة الزوجية الطويلة تختلط الامور، ولا يمكن التمييز بين غيرة الزوج كزوج او حبيب.
قلت:
* لكل زوج سقطة، فكيف تدارين سقوط زوجك؟
– عاصي ليست لديه هفوات، الا انه “يشارع” كثيراً على رأي جورج ابراهيم الخوري.
لوحة وثلاثة وجوه
على الجدار ثلاثة وجوه صامتة تجمعها لوحة واحدة، الريشة لسيسي سرسق، والتعابير لفيروز.
سألت:
* ماذا تعني لك فيروز بثلاثة وجوه؟
قالت:
– الوجه الغائب بين الضباب الازرق لفيروز الرومانتيكية، في الوسط فيروز الحزينة، على الجانب الايسر فيروز الحشرية!
وتأملت اللوحة من جديد، فرأيت شيئاً مشتركاً بين الوجوه الثلاثة هو الصفاء والنقاء والطفولة.
ورحت أسأل:
* من هي المرأة التي تحبينها في فيروز، الفنانة، أم الأم، أم الزوجة؟
– فيروز مزيج من هذه الشخصيات، ولا يمكن فصل الفنانة عن الأم او الزوجة.
البساطة في كل شيء
وفيروز تمتاز عن غيرها من الفنانات بأناقة بسيطة تبرز شخصيتها الهادئة المريحة، فسألتها:
* يقال ان في دولابك مجموعة من احلى الازياء، فهل تنفقين كثيراً على اناقتك؟
– ليست لدي مجموعة كبيرة.. ثيابي بسيطة، ولا أحب التعقيد، وأنفق عليها كأية سيدة عادية.
* وهل تحبين المجوهرات؟
– ليست لدي مجوهرات تذكر، أحب الخواتم “المهضومة” لا الغالية الثمن..
وأستمر في الحديث بعيداً عن الفن، فسألتها:
* ما أجمل ما في المرأة؟
– انوثتها، وعفويتها، لا أحب المرأة التي ترتب ضحكتها، وتنظم حركتها.
* وما أجمل ما في الرجل؟
– أحب الرجل الرجل، وأعتقد ان الباسبور الوحيد لأي انسان هو خفة الدم.. والباقي كله بيمرق..
* هل تخافين من السفر في الطائرة مثل زوجك وسلفك؟
– أخاف مثلهم بس عالسكيت!
* في حياة كل انسان ذكرى تعيش معه الى الأبد، فهل لديك مثل هذه الذكرى؟
– الأبد بعده بعيد.. لا ادري اية ذكرى سترافقني اليه.
وسألت فيروز النقية المؤمنة
* هل تذكرين الله في لحظات ضعفك فقط؟
– اذكره دائماً، وكأي انسان ضعيف امام قدرة الخالق يتزايد ذكري له في الأوقات العصيبة، وأطلب منه السماح والغفران.
أنا أنقد ذاتي
استرسلنا في الحديث، وكدت انسى فيروز التي تهز الملايين بفنها لولا ان صوتها انساب من مذياع بعيد يرتل: “مريت بالشوارع شوارع القدس العتيقة”.
* رايت التاثر ظاهرا على وجهك بعد تسجيلك لاغنية “لبنان” فلماذا؟
– تأثرت من الفرح، لأنني لم اغن مذ كنت في دمشق بايلول، وعندما استمتعت للتسجيل شعرت ان صوتي اقوى منه في “جبال الصوان”.
* عندما تستمعين الى صوتك، هل تطربين له وتعرفين نقاط قوته وضعفه؟
– أنا اول من انقد ذاتي، احياناً استمع الى صوتي بالراديو فأعجب به، واحياناً اقفل المذياع وأتمنى لو استطيع جميع اجهزة الراديو حتى لا يسمعني احد.
* أية اغنية تزعجك بهذا الشكل؟
– ليست هناك اغنية معينة، قد يكون السبب سوء التسجيل، او ربما احس بأنني استطيع اداءها اليوم افضل.
فلسطين هزتنا فغنيناها
* هل تتدخلين في اغانيك قبل نهاية تلحينها، ام تنفذينها كما هي، حتى ولو لم تعجبك؟
– ابدي رأيي في مقطع، وقد يؤخذ به وقد لا يؤخذ، تماماً كما يحدث بين أي مطرب وملحن.
* اغانيك عن “فلسطين”، هل هي اغاني عاطفة، ام اغاني مناسبات؟
– “فلسطين” هزتنا مثلما هزت كل الناس، فغنيناها.
* لونك الغنائي، هو لون شرقي أم غربي، أم “رحباني خاص”؟
– تستطعين القول بانه شرقي قريب للاذن الغربية، يسمعه الشرقي فربما يقول: هذا غربي.. ويسمعه الغربي فيقول: هذا شرقي جديد، شرقي مشغول.
اليس الابداع هو في التجديد الذي يصل الى كل اذن؟
المسرح عطاء خصب
* ما هو احساسك عندما تنتهين من تقديم عمل على المسرح؟
– الليلة الاخيرة على المسرح تحزنني، أشعر ان اشياء كثيرة رحلت، الممثلون، الديكور، الملابس، حتى الناس يمكن الا يرجعوا.. المسرح حزين لان له نهاية، ونهايات الاشياء تهزني، ولا ادري هل كان يجب الا تبدأ او الا تنتهي!
اطرب للفنان الأصيل
* تتحدثين عن المسرح بعشق!
– المسرح يوصلك الى اماكن لا تعيشينها في الحياة العادية، انه يعطي حياة اخصب، انه عالم جديد يضج بالحركة، ثم ينطفئ مرة واحدة، لا تستطيعين الامساك باللحظة الحلوة فيه.. ليت اللحظة الحلوة ارجوحة وليست خيطاً ينقطع ويهوى بنا.
وتابعت:
– لي صديقة تقول: اعرفك كثيراً ولكن، على المسرح اراك جديدة!
قلت:
* من هو الفنان الذي تعتقدين انه قد يستطيع ان يحل محل الرحابنة؟
– لا أحد، لانه لا يوجد في الشرق كله من يؤلف مسرحيات غنائية الا الرحابنة.
* لمن تطربين من الفنانين والفنانات؟
– اطرب لكل فنان اصيل يستطيع انتزاع اعجاب الجمهور، لانه لو لم يكن يملك موهبة لما وصل الى اسماع الناس.
* ماذا تكرهين في الفنان؟
– النواح.. الفنان الذي يشكي ويئن ويعمل من الحبة قبة!
* يفضل البعض فيروز القديمة “قبل اجراء عملية تجميل الانف” على فيروز الجديدة.. وانت ايهما تفضلين؟
– انا افضل فيروز المرتاحة، لأنني اجريت العملية لسبب صحي بحت.
* واخيراً ، لماذا ترفضين ان تطلق عليك الالقاب مثل “المطربة” أو “الفنانة” أو “النجمة” او “سفيرتنا الى النجوم”، بل تفضلين اسم “فيروز” المجرد من كل لقب؟
– أشكر الناس على محبتهم واشكر الصحفيين لخلعهم الالقاب علي، وأعتقد ان اسم فيروز يختصر كل هذه الالقاب.