في الذكرى الـ42 لاستشهاده المرجع محمد باقر الصدر لم يستوعبه محبوه.. لم يتركه مبغضوه

354

مجلة الشبكة العراقية /

يستعيد العراقيون في التاسع من نيسان حدثين مهمين لا يمكن الفصل بينهما في ضمائر الملايين، هما سقوط نظام صدام الدكتاتوري، واستشهاد المرجع الديني آية الله محمد باقر الصدر قدس سره.
وبالتزامن مع هذه الذكرى أثار أحد الصحفيين محبي السيد الشهيد الصدر، عندما استغل المناخ الديمقراطي للبلد لتوجيه إساءة بالغة لرمز ديني ومفكر وطني، قوبلت باستنكار كبير.
مثّل الصدر النهج المضاد والمقارع لنهج صدام ونظامه القمعي القائمين على الاستبداد والهمجية، فمن حيث يقدم الصدر رؤية إسلامية غير تقليدية في حل أزمات الأمة: الاقتصادية والاجتماعية، تستوعب ظروف الشعب ومحنته والمتغيرات التي فرضت عليه، فإن نظام صدام يستند إلى أفكار شوفينية وافدة لبناء جمهورية الرعب الدموي.
طروحات واقعية
وبخلاف الأفكار التي قدمها مفكرون وفلاسفة، وصفت طروحاتهم بالترف الفكري، فإن فكر الشهيد الصدر اتسم بالواقعية والحيوية، وقدم حلولاً شاملة وناجعة لمشكلات الناس والأنظمة الحاكمة. وبينما وجدت هذه الأفكار تفاعلاً بين أوساط المثقفين، فإنها غدت مصدر تهديد لنظام صدام الإجرامي.
وكان من الطبيعي أن يتطلع الناس، بعد سقوط صدام وفكره ونهجه، للعودة الى فكر الإمام الشهيد، ليكون نبراساً للمتصدين لإدارة الدولة، ونهجاً في بناء منظومتها الجديدة التي تنهل من بحر لا ينضب من الطروحات والقيم الإنسانية والمعالجات التي تركها الشهيد لحل أعقد المسائل التي تواجه المتطلعين لبناء دولة حديثة حرة.
فقد ظل فكر وفلسفة الشهيد الصدر راسخين في ضمير الناس، على الرغم من محاولات التشويه المستمرة التي تحاول النيل من هذه الشخصية العبقرية.
لكن الإساءة ما كانت لتأتي من الأعداء والحاقدين، ممن يسهل تشخيص نواياهم، لو كان محبو وأتباع فكر وعبقرية الصدر الشهيد، قد أحسنوا التعبير عن التزامهم وتمثيلهم للخط الفكري الذي دعا إليه الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه، وفي فلسفته التي رسمت ملامح بناء منظومة الحكم وقيادة الأمة، التي وضعت تأمين متطلبات الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للإنسان بشكل متوازن مع الاهتمام ببناء الدولة.
عقول الاجيال
ففي ميدان التربية والتعليم، مثلاً، تغيب عن جميع مراحل التدريس بشكل محير أية إشارة لفكر الشهيد ورؤيته ومنهجه في الحياة، وهو فكر كان على المحبين والمنتمين لهذا الخط أن يعملوا على غرسه في عقول الأجيال ليضيء لهم طريق الحياة، وليستلهموا من تاريخ الشهيد وسيرته العطرة مايعزز إيمانهم بالأفكار والرؤى التي طرحها السيد الشهيد.تسعة عشر عاماً كانت فيها القوى الإسلامية، المؤمنة بفكر السيد الشهيد، بإمكانها أن تفعل الكثير للأمة والشعب، ولبناء الدولة والإنسان وترسيخ قيم العدالة والإنصاف، وأن تستلهم من فكر الشهيد الحلول لكل الصعوبات والتعقيدات التي تواجهها مسيرة البلاد ونظامها الديمقراطي الذي يتعرض الى هزات عنيفة داخلية وخارجية.
كانت أفكار السيد الشهيد كفيلة بوضع حلول لوقف انحدار خطير في منظومة القيم المجتمعية، لا تكفي كل الشعارات التي ترتفع هنا وهناك لمعالجتها، من دون عمل حقيقي يستلهم فكر الشهيد الصدر وقيمه التي أرادها أن تعالج الواقع، لا أن تظل علماً من دون مشروع عمل.
-ولهذا، فإن من البديهي أن نتساءل: هل وجدت أفكار وطروحات الشهيد الصدر التغييرية، ورؤيته العميقة التي استهدفت إعادة النظر في عموم المعارف الإنسانية والدينية، على وجه الخصوص، طريقها الى واقع الحياة؟ هل وصلت الى شباب العراق؟ هل ساهم محبو السيد الشهيد بتحويلها الى منهج تدريسي في الجامعات العراقية وفي ميادين العمل في المؤسسات المختلفة؟
إن رمزية الصدر ينبغي أن تنبع أولاً من التمسك بتلك القيم العظيمة التي حملها وأراد من خلالها أن يغير المجتمع، فمشروعه الفكري لم يكن مشروع زمن ووقت معين، بل هو مشروع حياة ومشروع نظام اجتماعي وإنساني يستنهض قيم الإنسان ويدعم إيمانه ويحفز فيه أدوات التغيير، التي تجعل منها إنساناً مؤمناً فاعلاً في بناء مجتمعه وبلده، ومخلصاً لقيمه الأخلاقية.
لهذا، وفي ذكرى شهادته الثانية والأربعين يظل السؤال حاضراً: هل نجحنا في نشر فكر الشهيد؟ وهل صنعنا جيلاً حاملاً بوعي القيم التي استشهد من أجلها الصدر؟
لم يقتل المجرمون الشهيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه)، لولا خشيتهم من فكره العظيم ومن فلسفته العميقة ومن طروحاته البناءة، لهذا فإن محبي الشهيد هم أولى من غيرهم في نشر هذه الأفكار، علوماً وسلوكاً، وأن شبابنا أحوج إليها اليوم من أي وقت، والأمة تواجه سيلاً من الأفكار الوافدة والشاذة عن مجتمعنا وقيمنا.
– في أية ممارسة، وفي أي عمل، يمكننا أن نتلمس طريقاً الى مبادئ الصدر الخالدة ورؤيته في تحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف الشامل ومواجهة الطواغيت نصرة للفقراء والمحرومين.
سيرة ومسيرة
– إن الإساءة الى المرجع الشهيد تولد غضباً وألماً لا يمكن نكرانهما، لكن الأعداء فشلوا دوماً في النيل من سيرة ومسيرة الصدر، فهم أدنى بكثير من مبدئيته وطهارته ووطنيته وإنسانيته، بل إن ما يحدث من إساءة للسيد الصدر، إنما هي حلقة مكملة لفصول النيل من المرجع العظيم ومن فكره الخالد.
– ولهذا فإن من المهم أن ننقل فكر وعبقرية وفلسفة الشهيد الى أبنائنا لتتحول الى سلوك وممارسة، وكمعيار للفصل ما بين الخنادق عندما تختلط عليهم الألوان، وعلى محبي الشهيد والمنتمين لمسيرته أن يعملوا على نشر فكر السيد الشهيد في كل ميدان، سلوكاً وعملاً.
من المهم أن نرسخ في ذاكرة الأجيال، الذين لم يعيشوا مرارة الظلم والهمجية والسلوك الشوفيني والانتهازي لنظام صدام، معنى الانتماء للرموز التي قارعت ذلك النظام وأي فكر عظيم أرهب جبروت سلطته الدموية، حري بنا أن نستلهم من درر المنتج الصدري النظري والعملي بطريقة تنقلها من مرحلة الفكر الى الثقافة، بحيث تصبح سمة تلون مفردات حياة الذين (يتعقلنون) بها وينتصرون لها.

يقول الكاتب صائب خليل إن كتاب السيد محمد باقر الصدر “اقتصادنا” مليء بما هو مدهش، لكن الأكثر إدهاشاً هو (منهجية) بحثه، لإدراك المفكر نوع الصعوبات التي تواجهه، وللأمانة الشديدة التي اتبعها السيد باقر الصدر في بحثه، حتى إنك لتشعر أنه يخشى أن يحاسبه الله على كل حرف في كل رأي يقوله، وليس ذلك غريباً.
الشعور بالمسؤولية
وليس الأمر سهلاً، فاستنباط قواعد الاقتصاد الإسلامي ليس ميسراً ومجموعاً في كتاب أنزله الله أو قاله النبي، بل هي عملية جمع طويلة من مصادر كثيرة غير موثوقة في الغالب، وفي كثير من الأحيان متناقضة في استدلالاتها، فكيف يحدد الباحث الإسلامي موقفه منها؟
يقول السيد محمد باقر الصدر: “إنّ العملية التي نمارسها في دراستنا للمذهب الاقتصادي الإسلامي تختلف عن طبيعة العمل الذي مارسه الرواد المذهبيّون الآخرون. فالمفكّر الإسلامي أمام اقتصاد (مُنجز) تمّ وضعه، وهو مدعو إلى تمييزه بوجهه الحقيقي، وتحديده بهيكله العام، والكشف عن قواعده الفكرية، وإبرازه بملامحه الأصيلة، ونفض غبار التأريخ عنها، والتغلب بقدر الإمكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التاريخية الطويلة، وإيحاءات التجارب غير الأمينة التي مارست ـ ولو اسمياً ـ عملية تطبيق الإسلام، والتحرر من أُطر الثقافات غير الإسلامية التي تتحكّم في فهم الأشياء، وفقاً لطبيعتها واتجاهها في التفكير.”
إن الإحساس الشديد بالمسؤولية، لما تطوع بالتصدي له، وإدراكه لأهمية دقة كل كلمة يقولها، تجعل القارئ يبتسم امتناناً وتقديراً لجمال شخصية هذا الرجل، ويأسف الى ما آل إليه حال العلم في العراق، ويأسف في نفس الوقت على إضاعة جهده بإهمال تطبيقه العملي، ولاسيما في بلده العراق، كما كان الشهيد يأمل بلا شك.
لهذا فإن من الطبيعي أن نتساءل لمَ يغيب هذا الفكر عن جيل اليوم، ولمَ لا نعتمد فكر السيد الشهيد، ومنهجه ورؤيته الاقتصادية، والمعارف الكبيرة التي كان يمكن استلهامها لبناء اقتصاد متين ومكين، ومجتمع قوي مؤمن.
أين شبابنا من فكر الشهيد الصدر وفلسفته في بناء الإنسان وتنظيم علاقته بالسلطة، وفي نظريته الاقتصادية؟
وخلال الـ19 عاماً التي تلت سقوط نظام صدام حسين، مر العراق بمراحل عديدة، بدءاً من الحرب الطائفية إلى العمليات الإرهابية وظهور تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين، وسقوط ثلاث محافظات بيد الجماعات الإرهابية، وصولاً إلى اندلاع الاحتجاجات في 2019.
ومازال الناس يتساءلون لمَ لا نلجأ في كل معضلة تواجه بناء الدولة لنغرف من فكر وفلسفة الصدر الشهيد ما يعنينا على عبور الأزمات.. مهما كانت خطورتها.
فثمة فكر عظيم لا ينبغي أن يظل حبيس الكتب أو تتداوله نخبة من الناس، بل يجب أن يكون منهج عمل على مستوى فلسفة بناء الإنسان والاقتصاد معاً.