في ساحة التحرير… مبدعون يوثِّقون آلامَ العراقيين وآمالَهم

638

علي السومري /

لم تعد ساحة التحرير، التي أصبحت أيقونة لكل المتظاهرين السلميين في العراق ساحة فحسب، بل مكان شاسع يحتضن جميع مبدعي العراق بمختلف صنوف إبداعهم، هي معرض تشكيلي كبير، ساحة عروض مسرحية، صالة سينما مفتوحة، وقاعة موسيقى تطل على الجميع، ساحة يمكن وصفها بأنها الأقرب إلى روح الاحتجاج السلمي، وورقة إصلاح تضمنت أغلب مطالب المتظاهرين فيها بأشكال مختلفة.
عروض سينمائية وموسيقية
ما إن تتوجه إلى الساحة عبر ساحة النصر، ستجد خيمة السينما، حيث يتم فيها عرض أفلام سينمائية عالمية وعراقية وإقامة جلسات نقدية، يديرها مجموعة من السينمائيين العراقيين الشباب من النساء والرجال، عرضت فيها حتى الآن عشرات الأفلام التي يحتشد المتظاهرون لرؤيتها. هكذا نجح السينمائيون في الاقتراب من جمهورهم وسماع آراء كانت محصورة فقط ببعض النخبة، بمنهاج ثابت ومستمر لعرض الأفلام من الساعة السادسة مساءً حتى وقت متأخر من الليل.
تسير بعدها بضعة أمتار لتجد خيمة للموسيقيين تقدم فيها جلسات نغم ومقطوعات موسيقية لبعض فناني العراق، تترجم آمال وأحلام جميع الطامحين للتغيير المنشود عبر وسائل سلمية وراقية.
(التكتك) وشهداء الحرية
ما إن تخرج من خيمة الموسيقى وتتوجه إلى نفق شارع السعدون حتى تجد نفسك بأكبر (كاليري) للفنون التشكيلية، النفق الذي كان معتماً ومظلماً قبل انطلاق تظاهرات الخامس والعشرين من تشرين الأول، تحول بفضل أنامل المبدعين وشباب (الكرافيتي) إلى نفق يعرض بوضوح ما عانته هذه الساحة هناك ستجد صور الشهداء الذين سقوا أرض الساحة بدمائهم الزكية، مع لوحات وثقت مواقف كبيرة لسائقي عربة (التكتك) التي أصبحت هي الأخرى واحدة من أيقونات التظاهرات.
( الكولجية)
لوحات مرسومة للمطعم التركي ولصائدي قنابل الغازات المسيلة للدموع الذين يطلق عليهم لقب (الكولجية)، ولجسور بغداد الشهيرة كالجمهورية والسنك والشهداء، ولوحات أخرى جسدت الحضور الواسع والمبهر للمرأة العراقية التي شاركت بقوة في هذه التظاهرات وأثبتت قوتها وإصرارها على الصمود حتى تحقيق مطالب المحتجين، معرض تشكيلي لا يمكن لزوار ساحة التحرير إلا زيارته ورؤية ما مرّ على هذه الساحة عبر ألوان زينت جدران هذا النفق، يقول (حيدر إبراهيم) وهو أحد متظاهري الساحة: “هذا النفق أصبح علامة فارقة لتظاهرات الأحرار في ساحة التحرير، ولدينا خشية من قيام السلطة في المستقبل بتشويهه عبر إعادة طلاء جدرانه، حقيقة جسدتها لوحاته وضمت جميع آلامنا وآمالنا بعراق جديد ومختلف يخلو من الفاسدين”.
خشية (إبراهيم) وجدناها عند الكثير من المتظاهرين الذين طالبوا بعدم التجاوز على هذا المعرض الأول، الذي أقامته مجموعة من الفنانين المستقلين الذين لم تجمعهم يوماً أية عباءة آيديولوجية.
حضور لفناني المحافظات
الدكتور (أوس خلف) يقول: “أول مكان أزوره عند حضوري لساحة التحرير، زيارة نفق شارع السعدون، من أجل رؤية الجديد من اللوحات التي ترسم من قبل الفنانات والفنانين، لوحات أوثقها كل يوم عبر كاميرتي الخاصة لتبقى شاهداً على هذه الملحمة البطولية لشباب وقفوا باصرار من أجل عراق حقيقي للجميع”.
اللوحات لم تقتصر على نفق شارع السعدون فقط، بل تعدتها إلى نفق حديقة الأمة، النفق الذي أعاد له المتظاهرون الحياة ، وزينوا جدرانه باللوحات التشكيلية ومن جميع المدارس التشكيلية، لوحات لم يساهم برسمها فنانو بغداد فقط، وإنما بمشاركة فناني المحافظات أيضاً.
ما أن تهم بالخروج من نفق ساحة الأمة وتتوجه إلى ساحة الطيران، حتى تجد جدارية الفنان فائق حسن بحلتها الجديدة، بعد أن قام المتظاهرون بتزيين جدرانها وإعادة طلاء محيطها وزرع النباتات من حولها، وإنشاء مسرح صغير أمامها، مسرح قدمت عليه بعض الأعمال المسرحية التي ناقشت هموم شباب الوطن عبر عروض مسرحية جادة.
الشاعر رباح نوري، الذي يقوم بتغطية أسبوعية إذاعية في راديو العراقية، عبر برنامجه (نشرة أخبار الثقافة) أكد لنا بأنه لا يستطيع اللحاق بهذا الكم الهائل من النشاطات المختلفة في كل مجالات الإبداع، مضيفاً بأن هذه النشاطات: “تؤكد على حيوية وديمومة المشهد الثقافي العراقي وحضوره اللافت في ساحة التحرير من خلال حضور الكثير من المثقفين والفنانين العراقيين في الساحة ومساهمتهم الفاعلة فيه”.
موسيقى الأمل
وأنت تسير بين الحشود التي تغص بهم ساحة التحرير، متوجهاً إلى سطح المطعم التركي وإطلالته الرائعة على ساحة التحرير، ستشاهد ما أحدثه المتظاهرون من تغيير جمالي على جدران المطعم وسطحه، السطح الذي طالما أغرى الموسيقيين لتقديم مقطوعاتهم الموسيقية هناك، حيث سماء العراق الصافية وحشود المتظاهرين في الساحة، في مشهد لا يمكن لأي مشهد سينمائي عالمي رسمه كما يرسم كل يوم.
استمرار التظاهرات السلمية حتى اليوم في ساحة التحرير تشي بما لا يقبل الشك باستمرار إبداع الفنانين والمثقفين العراقيين فيها، استمرار يحركه أمل جميع المتظاهرين بالتغيير المنشود، وعودة العراق جامعاً لكل قومياته وإثنياته، وطن تتحق فيه العدالة الاجتماعية المنشودة، وتتم فيه محاسبة جميع حيتان الفساد ومن يدعمهم، أمل يشبه الأمل الذي يشعر به كل متظاهر وهو يوجه أنظاره صوب نصب الحرية الخالد للراحل جواد سليم، النصب الذي أصبح خيمة كبيرة لجميع العراقيين.