قسوةٌ وموت

692

رجاء خضير /

أسمِعتَ بأنين القلب, أم أنك تنكر الصوت الذي عشقته سنوات, أنت مثل زماننا هذا لا يتذكرُ عشقاً مضى، فعلامَ هذه الأيام جافية خاوية ليس لها رأفة بمن يسايرها، ولكن تذكر زمناً مرّ وانقضى.. مرّ وانقضى.
قال (س)، الشاب ذو الثلاثين عاماً, بهدوء وروية: أنا من عائلة محافظة جداً, ذات مكانة مرموقة في المجتمع, لذا كان والداي شديدين معنا أنا وأختي، فنحن الوحيدان لهما, وكلما اعترضتُ على قرارٍ يخصُ مستقبلنا أنا وأختي, كان والدي يعاقبني عقاباً شديداً.
أما أمي فكانت تارة تقف إلى جانبه, وأخرى معنا, مع أننا نعرف، كلانا، أن رأي والدي هو الذي سيغلب.. كبرتُ وبدأت بالتذمر من أسلوب والدي في تربيتنا وعدم سماعه لرأينا, وكان يعلل الأمر بأننا عائلة معروفة ولا يُسمح لنا بالخطأ أو الإساءة بأي شيء خشية على سمعة العائلة.
كانت أختي أشدُ حزناً وأسوأ حالاً مني، وأنت تعرفين جيداً أن مجتمعاتنا الشرقية فيها تُظلم الإناث أكثر منا نحن الرجال.. أردف (س) بعد دقائق من الصمت: واجهتُ أمي بحقيقة مشاعرنا تجاه سلوكيات والدي معنا, لم تدعني أكمل بل نهرتني وطلبت مني السكوت, لكني لم أسكت حينها بل واصلتُ حديثي, وأخبرتها أن أختي ليست على ما يرام, وأنها تعاني كثيراً وأكدتُ لأمي أن صمت أختي ليس دلالة على رضاها على معاملة والدنا لنا!!
فجأة اشارت لي أمي بالسكوت لأن والدي دخل علينا الغرفة واستمع لحديثي كله, فيبدو أننا لم ننتبه إلى ذلك، فما كان منه إلا أن أشبعني ضرباً وأخرج أختي من غرفتها وقد كانت نائمة لا تعرف شيئاً عما يحدث، وكان لها نصيب من الضرب مثلي, كانت ترتجف كسعفة وسط عاصفة وتصرخ: ماذا جرى! ماذا حدث! ثم غابت عن الوعي, لم يوقظها صراخ أمي وعويلي فاضطررنا لنقلها إلى المستشفى بمساعدة الجيران لأن والدي المتجبر تركنا وخرج بحجة أنه على موعدٍ مع رجال لهم مكانة في المجتمع.
وأضاف (س):
وقتها لم أتمالك نفسي وصرختُ: ما تفعله معنا حرامٌ يا أبي.. هذه ليست طريقة صحيحة للتربية, ما تراه, وما تسمعهُ من أمثلة سيئة للشباب والشابات في مجتمعنا ليس معناه أننا مثلهم, وتذكر يا أبي أن الشدة والقسوة والعنف هي منْ ستدمرنا ولا تصلحنا, لكن ضربة منه أسكتتني وانشغلتُ بإسعاف أختي بعد أن خرج هو!!
عرفنا في المستشفى أنها مصابة بانهيار عصبي حاد وأنها تحتاج إلى علاج طويل يستلزم رقوداً في المستشفى لتلقي العلاج على يد أطباء متخصصين، وهنا اتصلت أمي بوالدي وأخبرته بكل شيء, قاطعها وقال لها “أخرجوا فوراً من المستشفى وعودوا إلى البيت….”
عُدنا إلى البيت فوجدناه جالساً وكأن شيئاً لم يحدث, شرحتُ له مرض أختي واحتياجها إلى علاج دائم فرفض سماعي, ودخلنا كل في صومعته, تركتْ أختي الجامعة بسبب أفكار غريبة صارت تنتابها، فمرة تقول إنهم سيخطفونني، أو سيقتلني أحدهم، أوهام غريبة وخطيرة سيطرت عليها، فرجوتُ والدي أن يسمعني ولو مرة واحدة, وحدثتهُ صراحة بأننا سنفقد أختي اذا لم تأخذ العلاج الصحيح، ثم شرحتُ له ما في قلبي من حديث امتنعتُ طوال حياتي عن البوح به: يا والدي.. أنت أبُ قاسٍ, اعتمدت أساليب التربية السائدة قبل عقود خلت, ولم تعد صالحة لزماننا هذا.
ثم ما نفع تاريخ عائلتنا ومكانتها التي كانت مرموقة فيما مضى؟ هل أنصفت أختي ووقفت معها في مرضها؟ أتدفع أختي حياتها ثمناً لعادات وتقاليد لا تعني شيئاً في حاضرنا؟
بعد حديثي هذا أجابني بقولهِ: انتم معشر الشباب جميعكم…, وانقطع حديثه على صراخ أمي واستغاثتها بنا أن نلحق أختي, لأنها انتحرت، أسرعنا الى غرفتها فوجدناها تسبح في بركة دماءٍ، اتصلنا بالإسعاف التي حضرت ونقلتها إلى المستشفى حيث فارقت الحياة، إذ لم يستطع الأطباء إنقاذها لأنها خسرت دماء كثيرة.
تقدم أحد الأطباء منا وقال “هي الفتاة نفسها التي نصحتكم بإبقائها في المستشفى للعلاج من حالتها النفسية السيئة، أنتم مسؤولون عن وفاتها! ثم بعد ماذا أتيتم بها!!”
وبدون وعي مني هجمتُ على والدي واتهمته بأنه هو الذي قتلها, فتصور الواقفون بأن والدي فعلاً منْ قتلها! حضرت الشرطة والأقارب الذين أوضحوا للشرطة أنها كانت تعاني من اضطرابات نفسية خطيرة، وهذا ما أكده الطبيب المختص، حينها أفرجت الشرطة عن والدي, خيَّم الحزن على بيتنا، لذا قررتُ الهجرة, تركت البيت وحتى أمي التي لم تستطع الوقوف معنا، وقبل خروجي من البيت قلت لأبي: لن يجمعنا مكان بعد الآن، فأنت لديك سمعة العشيرة والعائلة ومكانتها والتربية الخاطئة والقسوة.. هذه جميعها لك وهي ستعوضك عن أولادك يا أبي…
اليس كذلك؟ جميعها لك يا أبي..