قصة الترامواي يرويها اخر من عملوا فيه: ينطلق بانتظام كل ربع ساعة من الفجر وحتى اخر الليل

1٬093

ارشيف واعداد عامر بدر حسون /

استمر الترامواي يعمل من العامل 1870 الى العام 1946 في بغداد، وهو تأسس في زمن الوالي العثماني مدحت باشا وبتشجيع منه، لكن كشركة مساهمة تحمل اهالي وتجار بغداد تكاليفها وحصلوا على ارباحها ايضاً.. وهنا مقابلة مع احد جباة الترامواي واخرهم ايضا وفيه يروي ذكرياته في مقابلة مع مجلة امانة العاصمة اجريت معه في العام 1978
دخلنا سوق الخضراوات في الشوّاكة “الكرخ” لنجري لقاءً قصيراً مع البقال كاظم في دكانه بالسوق، وهو أحد جباة الكاري الذي عايش مصلحة الجباية قرابة العشرة أعوام ولم ينفصل عنها إلا حين الغي الترامواي في أواخر سنة 1946، سألناه عن هويته وأن يعطينا بعض المعلومات عن حياته الخاصة فابتسم ببراءة وبدأ يسرد:
– اسمي حسين كاظم من مواليد بغداد 1912 ومن سكنة محلة سوق حمادة بالكرخ ومازلت أسكن هذه المحلة. كنت اشتغل مع والدي المرحوم بقالاً في سوق حمادة قبل التحاقي في الترامواي حين عينت بوظيفة جابي في شركة الترامواي سنة 1926 براتب (25) روبية شهرياً وهو ما يساوي 1875 فلساً، وكان آخر راتب تسلمته ثلاثة دنانير وذلك في سنة إلغائه. وكنا نتسلمه على شكل وجبات أسبوعية تسمى “خرجية”، وفي نهاية الشهر نتسلم ما يتبقى منه، وبعد أن صفّت الشركة أعمالها وألغيت نهائياً سرّح جميع العاملين فيها من الخدمة ومنحوا الإكراميات وكانت إكراميتي خمسة عشر ديناراً. بعدها التحقت بمصلحة نقل الركاب التابعة لأمانة العاصمة آنذاك بوظيفة فراش ثم تركت العمل فيها ورجعت الى مهنة والدي لأشتغل بقالاً في سوق الشواكة كما تروني الآن.
والد وصفي طاهر أحد مدراء الترامواي
* من هم المدراء الذين تعاقبوا على إدارة الترامواي ومن هم الأشخاص الذين كانوا يعملون معك؟
– أتذكر من المدراء أحمد افندي وجعفر جلبي وصادق حسن التكريتي وخليل السيد ابراهيم السامرائي ابن سادن جامع الإمام أبي يوسف في الكاظمية والسيد طاهر والد العقيد وصفي طاهر.
أما من الجباة فأتذكر منهم: عبد الواحد محمد علي خيوكة رئيس جباة في الكرخ، وقد اشتغل في أمانة العاصمة بعد ذلك، أما الآن فقد أحيل الى التقاعد والمرحوم محسن عكاب رئيس الجباة في الكاظمية وعبد المحسن سيد يعقوب من جباة الكاظمية.
أما من السواق فأتذكر منهم: عبود مسيباوي وحسن عكاب وحسن خيارة ومحمد ابو اللذيذة ومزعل وجمعة الخلف.
ومن العمال الفنيين النجار حميد الذي كان يشتغل في النجارخانة وكان موقعها ملاصق للكراخ في الكرخ، وقد تعين بعد ذلك في دائرة الري ببغداد، والحداد وسائق الماكنة “الطرزينة” عباس ابن اسطة مبارك وهو من أهالي محلة بني سعيد والذي ترك بغداد ليشتغل في مدينة البصرة الآن.
وكنا نلتقي دائماً بكثير من العاملين في الترامواي في المقهى قبل سنوات نستعيد مع بعضنا ذكريات الماضي ونروي قصة الكاري..!!
هكذا بدأ عمله
ثم ننتقل بالجابي الى جانب آخر ليصور لنا سير العمل من حيث الروتين المتبع ومكان وزمان انطلاق الكاري ومنتهاه، فتململ قليلاً معتدلاً في جلسته ثم قال: الكاري عربة تم استيرادها من لندن وصنع هيكلها في ورشة الدائرة التي كان موقعها ملاصقاً لكراج الترامواي ويسمى “النجار خانه” في الكرخ قرب بيت النواب باتجاه مدرسة إعدادية الكرخ للبنات، وقد أزيل الكراج المذكور والنجارخانه، بسبب افتتاح الشارع الطولي بالكرخ وكانا يحتلان مدخل الشارع المطل على ساحة إعدادية الكرخ اليوم، والعربة تسير على سكة حديد وتجرها الجياد بنسبة حصانين لكل عربة، وتستبدل بغيرها في كل رحلة لتستريح في اصطبل الكرخ الذي كان موقعه في جانب الكرخ وكان يحتل بناية مدرسة الكرخ الابتدائية للبنات اليوم، واصطبل الكاظمية الذي كان موقعه في الشارع المؤدي الى الكراج ويحتل بناية سوق بيت ماجد اليوم التي اشتغلت دكاكينها في بيع الأقمشة وخياطة الدشاديش، ولهذه الخيول سيّاس يرعونها ويسهرون على ترتيبها، وكان عددها يقارب العشرين حصاناً، أما مصدر اقتنائها فإنها إما أن تباع من سماسرة الخيول او تجلب من فرقة الخيالة التابعة للجيش، وكذلك تستخدم الخيول التي تصبح غير صالحة لسباق الخيل فتباع من قبل أصحابها أيضاً لهذا الغرض.
كان تحرك أول عربة من الكرخ الساعة السادسة صباحاً وآخر عربة تذهب الى الكاظمية الساعة العاشرة مساءً، والفاصل الزمني بين تحرك عربة وأخرى ربع ساعة في الأوقات الاعتيادية من النهار، وتقطع المسافة في نصف الساعة يتوقف الترامواي خلالها بضع دقائق في مراحل معينة: الأولى في منطقة الجعيفر حيث مقص السكة الذي ينظم سير العربة على السكة لتحاشي الاصطدام بين عربتي الذهاب والإياب، والمرحلة الثانية في منتصف الطريق في منطقة العطيفية قرب المنطقة جامع براثا اليوم، والمرحلة الثالثة في منطقة الشوصة في الكاظمية حيث مقص آخر للسكة ينظم السير عليها أيضاً، ثم يستأنف السير من هذه المرحلة حتى تنتهي وتستقر في الكرخ بالكاظمية حيث ما يزال بناؤها ماثلاً للعيان الى اليوم وهو مشغول من قبل بائعي الحلويات والكعك وموقعه في نهاية سوق الاسترابادي.
أربع طرزينات بدلاً عن الخيول في أوقات الزيارة
وكان عدد العربات التي تمتلكها الشركة يقارب الأربعين عربة والصالحة للاستعمال منها تتراوح بين (10-15) عربة وعدد الساحبات البخارية التي كنا نسمي الواحدة منها “الطرزينة” أربع ساحبات وكانت تستخدم بدلاً عن الخيول في أوقات الزيارة والمناسبات الأخرى للتخفيف من شدة الزحام وتحقيق السرعة، وقد استوردت هذه الماكنات من لندن زمن مديرها علي صائب جلبي ابن عبد القادر الخضيري مع عدد البطاقات الذي كان يستخدمه الجباة، ثم ألغي العدّاد وأصبح قرض البطاقة باليد كما هو عليه الحال الآن في المنشأة العامة لنقل الركاب، وكان تصميم العربات في بادئ الأمر مكوناً من طابقين دون سلم ثابت، فيرتقي الركاب الى الطابق الثاني بواسطة سلم متحرك ينزع من العربة بعد أن يحتل جميع الركاب مقاعدهم فيه، ثم ألغي الطابق الثاني في هذه العربات، وأخيراً استعملت العربات ذات الطابقين وبسلم ثابت طبقاً للعربة المعروفة في متنزه الزوراء.
حتى التذاكر كانت تطبع في لندن!
وكنا نستخدم بطاقات مطبوعة في لندن من ذات الدرجتين، فالدرجة الاولى ثمنها (2) آنه وتساوي (4) قروش والدرجة الثانية (3) قروش وذلك في زمن الاحتلال البريطاني، وفي زمن الحكم الأهلي أصبح ثمن بطاقة الدرجة الأولى (9) فلوس والثانية (7) فلوس ثم توحدت الأجور بعد ذلك بعشرة فلوس وبدرجة واحدة الى أن ألغيت نهائياً.
أتذكر أشهر ركاب الترومواي ومنهم رئيس أركان الجيش!
أتذكر من الأشخاص الذين اعتادو ركوب الكاري بصورة دائمة ومنتظمة أربعة اشخاص من أهالي الكاظمية كانوا هم ركاب آخر كاري ينطلق من بغداد الى الكاظمية الساعة العاشرة مساءً وهم من أصحاب المصالح في بغداد: السيد جواد الخانجي في رأس الجسر، وعباس الضامن دار صاحب بساتين في منطقة العطيفية حيث كان يقضي فترة المساء بالسمر مع معارفه وجلّاسه في مقاهي رأس الجسر في الكرخ ثم يعود الى بيته آمناً مطمئناً بآخر كاري مساء، والحاج عباس البقال وكان دكانه قرب حمام رأس الجسر، والحاج عبد الرزاق الحلاق في رأس الجسر والذي مايزال دكانه القديم عامراً بالزبائن من أبناء الجيل الماضي، ويقع في الجانب الفرعي مقابل محل الحاج جواد الشكرجي في شارع الحدّادين قديماً.
ومن الشخصيات البغدادية التي اعتادت ركوب الكاري مفضلة إياه على السيارات الحكومية الفارهة هو المرحوم نظيف بك الشاوي، ورئيس أركان الجيش كان أيضاً يفضل الركوب بالكاري من منطقة سكناه بالعطيفية الى الكرخ ثم يذهب الى مقر عمله في وزارة الدفاع ماشياً عبر جسر الشهداء فسوق السراي فشارع جديد حسن باشا.
ضجّة بسبب توقفه لأسبوع!
ثم انتقل الحديث الى الحوادث المهمة التي وقعت للترامواي اثناء خدمته فقال:
– من الحوادث التي صادفتني يوم توقف العمل لمدة أسبوع كامل سنة 1941 أثناء الحرب لأسباب أمنية استثنائية فتضايق الناس كثيراً وتذمر أصحاب المصالح واضطر الكثيرون الى أن يركبوا الدواب او أن يسيروا على الأقدام في الحالات التي تستوجب ذلك.
وكانت تحدث بعض الحوادث المؤسفة أثناء السير وبالأخص في وقت الزيارات حيث تكتظ العربة بالركاب ويحاول البعض أن يتسلق أجزاء العربة ويتعلق آخرون بالقضبان وأطر النوافذ فتبدو الحافلة للناظر وكأنها أكداس بشرية تجري على الأرض، فيذهب ضحية ذلك عدد من الركاب في كل مرة، وهناك حوادث مؤسفة أخرى يسببها الكاري لغير الراكبين عندما يخترق طرق وأزقة الكرخ الضيقة في سوق الجديد والست نفيسة والتكارتة والجعيفر فيتعرض أطفال هذه المناطق الى حوادث الدهس المختلفة.
اصطدامه بالقطار قطع لسان أحد الركاب!
من الحوادث الطريفة المهمة الأخرى يوم اصطدم القطار بعربة الكاري في نقطة تقاطع السكّتين في منطقة الشالجية فتضررت الخيول وتصدعت بعض أجزاء العربة وخزان النفط، إلا أن العربة لم تنقلب بل استدارت دورة كاملة من شدة الصدمة ولم يصب أحد من الركاب بأذى سوى راكب واحد أذهله هول الحادثة فأخرج لسانه من بين أسنانه فأطبق عليه وقُطع جزء منه فأثر ذلك على نطقه وهو السيد الأطرقجي في سوق الخفّافين في بغداد والذي مازال حياً يرزق “أمدّ الله في عمره.”
أقدم بطاقة للأشخاص في الكاري كانت تسمى (بغداد تيموريل شاهانه سي) ورقم البطاقة عليها وصنف الجلوس لمدينة كاظمين ون ومعناها ذهاب فقط (ون).
مشكلات الجابي مع الركاب
وكانت تصادفني مشكلات مع بعض الركاب منها أن بعضهم لا يدفع أجرة البطاقة ويحاول أن ينسي الجابي ويفوّت عليه فرضة التفتيش خاصة في أوقات المناسبات عندما يكتظ الكاري بالركاب وكنا نعالج هذه الحالة بإنزال المخالف من العربة عقوبة له خاصة إذا عرفنا أنه يكررها مراراً، والبعض الآخر نرأف بحاله فندفع له بطاقة ركوبه ونتسلم منه إجرتها ومنهم من يفلت من قبضتنا وبالأخص في أوقات الزيارات.
كان ينقل طلاب المدارس مجاناً!
وكذلك تحدث نفس المشكلة مع طلبة المدارس في الكرخ بالرغم من أن لهم تخفيضاً بنصف الأجرة لمن يبرز هويته منهم، ثم أبلغنا مدير الترامواي السيد جعفر جلبي بإعفاء الطلاب من أجرة الركوب وبالأخص الذين يستخدمونه للذهاب والإياب من والى مدارسهم أو الذين اعتادوا الذهاب الى ساحة لعبة كرة القدم في منطقة الشالجية لمشاهدة بعض المباريات بين الفرق المتقدمة في هذه اللعبة، وكذلك بالنسبة للطلاب الذاهبين الى منطقة الشاطئ في العطيفية حيث تتم مراجعة الدروس تحت ظلال الأشجار الممتدة على شاطئ دجلة بعيداً عن الضوضاء وصخب المدينة في موسم الامتحانات النهائية الذي يصادف في بدء فصل الصيف.