كورسك.. التي أبعدت بوتين عن المشهد السياسي!

194

محمود الغيطاني /

مازال البعض يتذكر مأساة غرق الغواصة النووية الروسية “كورسك” عام 2000م في بحر بارنتس شمال روسيا، وموت طاقمها بالكامل، البالغ عديدهم 118 بحاراً، بعدما تخاذلت القوات البحرية الروسية في إنقاذهم، رغم معرفة القوات البحرية الروسية بالانفجار الذي حدث في الغواصة التي تحتوي على مفاعل نووي- بسبب انفجار أحد الطوربيدات على الأرجح- لم تتحرك من أجل إنقاذ الناجين من طاقمها إلا بعد مرور 12 ساعة كاملة، كما أنهم لم تكن لديهم أية غواصات للإنقاذ؛ إذ كانت الغواصتان الرئيستان للبحرية خارج روسيا في ذلك التوقيت.
رفض المساعدة الدولية
التراخي الكامل في إنقاذ البحارة الناجين اتضح في رفض روسيا -البات والحاسم- في تقبل أية مُساعدة من القوات البحرية للدول الأخرى، حينما عرضت كل من بريطانيا، وفرنسا، والنرويج، والولايات المُتحدة، على الحكومة الروسية آنذاك، بقيادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التدخل من أجل إنقاذ البحارة، لكن الحكومة الروسية رفضت بشكل قاطع تلقي أي شكل من أشكال المُساعدة خوفاً على أسرارها العسكرية، مُضحية في ذلك ببحارتها.
بوتين في وجه العاصفة
واجه بوتين، الرئيس الروسي، حينها الكثير من الانتقادات؛ نتيجة لأنه لم يقم بقطع إجازته الصيفية على شاطئ البحر، ولم يعد إلى موسكو لمُتابعة المأساة، إلا بعدما تعالى الكثير من الأصوات التي نددت بخموله؛ الأمر الذي جعله في نهاية الأمر يعود إلى الكرملين، ويوافق على قبول المُساعدة للإنقاذ من الأسطول البحري البريطاني تحت الضغط الكبير، ولكن بعد مرور سبعة أيام كاملة على الحادث؛ الأمر الذي أدى إلى موت البحارة جميعهم في نهاية الأمر.
إن المأساة السياسية، التي نُسج حولها العديد من الأقاويل عن السبب الحقيقي في انفجار الغواصة، ما زالت مجرد أسرار عسكرية لا يعرف أحد السبب الحقيقي في حدوثها، فهناك من يؤكد أن السبب الأساسي هو انفجار أحد الطوربيدات داخل الغواصة، وهناك قول آخر يؤكد أن إحدى الغواصات الأمريكية قد اصطدمت بالغواصة الروسية ما سبب هذا الانفجار، وهناك قول ثالث يؤكد أن سبب الانفجار هو طوربيد خارجي- وليس داخلياً- تم إطلاقه عليها من الخارج، كما أن ما حدث للبحارة داخل الغواصة في الفترة التي تلت الانفجارين، ومحاولة استنجادهم، إلى أن ماتوا داخلها، لا يعرف أي شخص عنه شيئاً؛ الأمر الذي أثار المُخيلة الروائية والسينمائية عن الأيام التي ظل فيها البحارة أحياء داخلها آملين في إنقاذهم، وهو ما دفع الكتّاب وصُناع السينما إلى تخيل ما حدث للبحارة في هذه الفترة؛ وبالتالي رأينا كتاب المؤلف الأمريكي روبرت مور الذي كان بعنوان “وقت للموت”، وهو الكتاب الذي اعتمد عليه السيناريست الأمريكي روبرت رودات صاحب فيلم “إنقاذ الجندي ريان” 1998م؛ فكتب سيناريو الفيلم البلجيكي الذي أخرجه المُخرج الدانماركي توماس فينتربرج.
الذكاء الفني
من أين يكتسب الفيلم البلجيكي، الذي يتحدث عن أزمة هذه الغواصة، قيمته الفنية والإنسانية التي تجعلنا نرى فيه فيلماً جيداً حري بنا إعادة مُشاهدته مرات عدة، وتأمل ما حدث فيه مرة أخرى؟
إنه يكتسب هذه القيمة المُهمة من نهايته التي ختم بها المُخرج فيلمه؛ فالذكاء الفني للمخرج الدانماركي توماس فينتربرج جعله يربط بمهارة بين المشهد الأول في الفيلم ومشهده الأخير، وبين هذين المشهدين عمل بالتركيز على العلاقات الإنسانية وأثر هذا الانفجار في تدمير الكثير من الأسر والروابط، والعلاقات العاطفية بين البحارة العالقين أسفل المياه، وبين زوجاتهم المُنتظرات لهم على السطح بخوف.. وبيأس وأمل بالغين.
مشهد مثير
يبدأ المُخرج فيلمه بمشهد الطفل ميشا-قام بدوره المُمثل الروسي أرتيمي سبيريدونوف- الذي يغوص تحت الماء محاولاً تحقيق رقم قياسي جديد يخصه في الغوص، بينما يد أبيه ميخائيل-قام بدوره الممثل البلجيكي ماتياس شوينيرتس- مُمتدة أمامه داخل الماء ليرى الطفل -من خلال ساعة أبيه- المدة التي من المُمكن له فيها أن يبقى تحت الماء.
تتمثل براعة المخرج هنا في رغبته بالربط بين هذا المشهد، كأول مشهد في الفيلم، ومشهد النهاية حينما يرفض الابن ميشا- داخل الكنيسة- أخذ العزاء ومُصافحة قائد البحرية الأدميرال فلاديمير-قام بدوره المُمثل السويدي ماكس فون سيدو- الذي تقاعس كثيرا في إنقاذ البحارة، ومنهم أبوه، وبالتالي كان سبباً في موته، أي أنه يحمله المسؤولية في موت الأب، ولعلنا لاحظنا أن المخرج هنا قد نجح -إلى حد بعيد- في التعبير عن العلاقة الوثيقة التي كانت تربط الطفل بأبيه، ومدى تعلقه به طوال أحداث الفيلم، وانتظاره الطويل له حتى يصعد من تحت الماء.
عرض المأساة
بعدما يعرفنا المخرج، من خلال مشهده الأول، على الابن وأبيه البحار في الأسطول البحري الروسي، وأمه تانيا، الحامل بطفل جديد-قامت بدورها الممثلة الفرنسية Léa Seydoux ليه سيدو- ينتقل إلى تعريفنا بباقي أفراد الفيلم من البحارة قبل بدايته في عرض المأساة التي ستأخذ توقيت الفيلم بالكامل؛ فينتقل بنا إلى البحارة الذين يتوجهون إلى تسلم مُرتباتهم، لكن الموظفين يخبرونهم: لم نتلق أي شيء من موسكو؛ الأمر الذي يجعلهم يسلمون البحارة القليل جداً من النقود؛ ليقول ميخائل ساخراً: إذن ما الذي يفترض بنا أن نقتات منه؟
يحرص المخرج، بمجرد هبوط الغواصة تحت سطح الماء، على توضيح العديد من الظروف التي يعاني منها الأسطول البحري الروسي، وهي الظروف التي لا يمكن أن يمر بها أي أسطول بحري، ففضلاً عن تأكيده مع مشاهد البداية على معاناة الدولة الروسية من أزمات مالية تجعلها تتأخر في دفع الرواتب لبحارتها، نرى الأدميرال جرودزنيسكي- قام بدوره الممثل النمساوي Peter Simonischek بيتر سيمونيشيك- يقول لأحد الضباط مُتأملاً البحر بعد هبوط الغواصة: ثلثا غواصاتنا يتم تفكيكها من أجل قطع الخردة، هل تتذكر “كوتوسوف” أول سفينة كنت أقودها؟ لقد تخلت عن صواريخها، والآن توصل اللحم والخضراوات إلى قاعدتنا في بوليارني، الآن إذا ما هاجمنا الأمريكيون يمكن للكوتوسوف أن ترش الملفوف عليهم! أي أن القوات البحرية الروسية في حالة يرثى لها من الفقر والحاجة الشديدة؛ الأمر الذي يجعل وضع الأسطول في حالة خطيرة، وهو ما سنلاحظه -فيما بعد- حينما تنفجر الغواصة ولا يستطيعون نجدتها بسبب عدم وجود غواصات صغيرة قادرة على الإنقاذ سوى غواصة واحدة مُتهالكة تماماً؛ وبالتالي تعجز غير مرة في الاتصال بالغواصة الغارقة وإنقاذ من بداخلها من الجنود.
الانتظار المميت
يموت جميع البحارة الذين كانوا في مُقدمة الغواصة، ويحاول الآخرون الذين في مُؤخرتها إغلاق جميع القمرات والاحتماء بالقمرة الأخيرة فيها مُنتظرين إنقاذ زملائهم الذين على السطح لهم. لعل هذا المشهد، الذي حرص عليه المخرج، يتميز بالكثير من الذكاء حينما يقول ميخائيل لأحد زملائه الخائفين من أجل طمأنته: “ليو، ستنجو، انصت إليّ، تخيل أنك على السطح، وأن أصدقاءك محاصرون هنا، ستفعل المُستحيل لإنقاذهم، كل ما كنا لنفعله لهم سيقومون به هم من أجلنا الآن.” نقول إن هذا المشهد كان من المشاهد المُهمة في الفيلم؛ لأنه يؤكد لنا، من خلال حديث ميخائيل، مدى الإيمان واليقين من قبل أفراد البحرية الروسية بالقيادة التي تقودهم، ومدى حرصها على سلامة وحياة جنودها، في حين أن الأحداث التالية تؤكد لنا أن القيادة الروسية لا تعنيها حياة جنودها بقدر ما تعنيها الأسرار العسكرية التي لا يجب لها أن تتسرب، أو تعلم عنها أية جهة أخرى شيئاً؛ ومن ثم ضحوا بحياة جنودهم في مُقابل أن تظل أسرارهم العسكرية طي الكتمان!
يحاول الرجال الناجون في الأسفل، بكافة الطرق، البقاء على قيد الحياة إلى أقصى مُدة مُمكنة لحين إنقاذهم من قبل قادتهم في الأعلى، ولعل المصور الإنجليزي “أنتوني دود مانتل” كان من المهارة والذكاء الفني والانتباه ما جعله حريصاً على أن تبدو وجوه جميع المُمثلين داخل الغواصة باللون الأزرق دلالة منه وتأكيداً على النقص الحاد في الأوكسجين؛ الأمر الذي عرضهم للاختناق، كذلك للإيحاء ببرودة الموت المحيط بهم.
هنا ينهي المخرج الدانماركي توماس فينتربرج فيلمه حينما يكتب على الشاشة: 71 طفلاً فقدوا آباءهم على متن الغواصة كورسك؛ ليبين لنا شكل المأساة التي حدثت بسبب إهمال الدولة الروسية وقادتها، ولاسيما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعدم اهتمامهم بشأن بحارتهم. كما لا تفوتنا الموسيقى التصويرية البديعة التي تميزت طوال أحداث الفيلم باللحن الجنائزي الحزين الدال على حدوث المأساة منذ البداية حتى نهايته، كذلك الأداء الجيد لطاقم الفيلم من المُمثلين.