كيف استقبلت الطيارة لأول مرّة؟
ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
حلّقت الطيارة في جو مصر –لأول مرة- في مستهل ايام الحرب الكبرى، ولكنها لم تهبط طوال زمن الحرب على غير الإسكندرية والقاهرة.. إلا أننا شاهدناها لأول عهدنا بها بالقرب من مدينة بنها عام 1919، علامات القيامة
وذلك أن إحدى طائرات الجيش البريطاني اضطرت الى الهبوط في قرية مجاورة لـ (بنها) تسمى “كفر بطا”،وقد تسامع أهل المدينة بهذا الخبر فيمموا شطر القرية زرافات ووحدانا، وتكاثروا حول الطيارة وازدحموا وكلهم واجمٌ ذاهل. وعلى الرغم من أن المتفرجين كانوا قد رأوا طيارات كثيرة تسبح في الهواء، فقد كان الباعث على دهشتهم هو حجم الطيارة الذي لم يتصوروه من قبل بذلك الكبر.
وقد سمعت بأذني شيخاً مسناً يضرب كفاً على كف ويقول:
“ولسه ياما هنشوف من علامات القيامة!! والله يا خلق ده يوم النصارى اللي سلطهم ربنا على المسلمين!.. يا سلام على سخط الله، اصلح الحال يا رب وتوب علينا”.
وراعني أن الشيخ بكى بصوت مرتفع!
وقد أراد أحد القرويين أن يعرف كيف ترتفع الطيارة وتشق طبقات الجو فسأل شاباً متعلماً:
– أين الجناحان:
فأشار اليهما، واذ ذاك اشتد عجب الرجل وسأل:
– ولكنهما ثقيلان.. وأين الريش؟
وقد ظلت الجموع واقفة لا تبرح مكانها حتى أصلح خلل الطيارة وأراد الجنديان البريطانيان أن يطيرا بها، ولابد لذلك من إفساح الطريق لها –ولكن رجال الشرطة لم يستطيعوا إبعاد الجموع الكثيرة عنها، ولم ير راكباها بداً من اتباع وسيلة اخرى، فأدارا محركها حتى سمع له أزير مرتفع، فاذا بالجموع تعدو خائفة أن يمسّهم مكروه..
على أن الكثيرين كانوا يعرفون كل شيء عن الطيارة، ولذا لم يجدوا في رؤيتها مفاجأة عجيبة تدعو الى الدهشة والاستغراب، ولعل رؤية المصريين للمنطاد جراف زبلن الألماني منذ نحو خمسة أعوام قد أثارت دهشتهم أكثر مما أثارتها الطيارة، فقد كان تحليق بيت كامل المعدات في طبقات الجو أمراً بعيد التصور، والواقع انه لم يبق في القاهرة من لم ينتظر قدوم المنطاد، حتى لقد كان بعض المارة في الطرقات اذا سمعوا أزير المنطاد أسرعوا بالصعود الى سطح البيت الذي يصادفهم شوقاً الى رؤيته.
الطيارة في السودان
وقصّ علينا صديق محترم رأى أول طيارة هبطت أرض السودان فقال:
“كان ذلك عام 1917، وقد نادى المنادون في مدينة الخرطوم فذكروا أن طيارة ستهبط في المدينة منتصف الساعة الرابعة من مساء اليوم وسيكون نزولها في الميدان الواقع خلف قصر الحاكم العام وكان قائدها فرنسياً لا أذكر اسمه، فلم تكد الساعة الثالثة تحين حتى احتشد الناس في فضاء الميدان، وأخذ الجنود والضباط الإنجليز يحفظون النظام، وكان كل صاحب ساعة لا يفتأ ينظر فيها بين برهة وأخرى، حتى وافت الساعة الثالثة والنصف ولم تأت الطيارة فبدأ قائلهم:
“والله ما تأتي.. جال طيارة!!.. وبينضحك على عجولنا، مكنه تحمل الناس وتجري في الهوا.. مستحيل يا زول”
وبينما هم يفكرون في الرجوع اذ سمع أزير الطيارة من بعيد، ثم بدت شيئاً فشيئاً، وأخذت تحلق في جو الساحة وتتقلب اثناء هبوطها حتى استقرت عل الأرض، فاذا السودانيون راكعون على ركبهم والكل يقرأون الفاتحة وينطقون بمعاني الإيمان بالله.. ثم لم يلبث قائد الطيارة الفرنسي ان غادرها، فلما رآه السودانيون بملابسه الغريبة ومنظاره ذعروا والتمس بعضهم طريق النجاة.. غير أن حكمدار المدينة الإنجليزي طلب الى ثلاثة من سادة العشائر ان يتقدموا لمصافحة الطيار.. فقبل اثنان منهم أما الثالث فقد ألحّ في الرفض قائلاً:
“أنا لا أعرف اذا كان الطيار انساناً او شيطانا، ولا يمكنني أن اصافح الشيطان”.
رجسٌ من عمل الشيطان
وحلقت الطيارة في جو الرياض لأول مرة عام 1925، وكان يقودها جنديان بريطانيان. وعلى الرغم من أن الطيارين حُذرا من النزول في أي مكان آهل بالسكان في نجد فقد اضطرا الى الهبوط ورأيا أن في النزول بالعاصمة على مقربة من مقر جلالة الملك ابن سعود أماناً من الاعتداء.
وقد اشتدت دهشة الأهلين اذ أبصروا الطيارة تئز في الجو، ثم ثار غضبهم حين رأوها مستقرة على الأرض، ولولا حكمة حاكم المدينة الذي كان قد أنبئ من قبل بأن طيارة انجليزية ستمر بجو الرياض، لما ظهر للطيارة ولا لقائديها أي اثر، وذلك أن أعراب نجد ظنوها سحراً وظنوا راكبيها من عبدة الشيطان، وليس من جريمة في نجد أبشع من السحر ولا من مجرم أشنع إجراماً من الساحر، وأرادوا أن يحملوا على هذا السحر، وكانوا فاعلين لولا ان حاكم الرياض طلب الى الطيارَين أن يغادرا المدينة في الحال فغادراها ناجيين بطيارتهما بعد ربع ساعة فقط من قدومها. ولم يكد علماء الدين في الرياض يتبينون هذا الموضوع حتى اجتمعوا وأصدروا فتوى دينية أرسلوا بها الى جلالة الملك عبد العزيز وهي تتلخص في أن الطيارة عمل من أعمال السحر الذي يستعان عليه بالشيطان ولذلك كان مجرد مرورها في جو نجد مدنساً له، وأوجبوا على كل مسلم وهابى أن يغضب لهذه البدعة الخارجة على أصول الدين، والتي لا يقرها مسلم.. وضربوا المثل للطيارة بقصة رجل من أهل نجد كان يحج كل عام الى مكة، غير انه كان لا يبرح نجداً إلا قبل وقفة عرفة بيومين مع أن الطريق كان لا يقطع اذ ذاك الا بقوافل الجمال، فكان قطعه يستغرق نحو ثلاثين يوماً، وكانت الأدلة ثابتة على أن الرجل يحج اذ كان يلتقي على عرفة بحجّاج نجد!.. ثم كشف أمره فاذا به يعبد الشيطان! ولذلك يأتى اليه في موعد الحج من كل عام على هيئة جمل فيمتطيه ويطير به الى مكة!
يجدها مقلوبة!
وحدثنا تاجر مصري ظل يشتغل بالتجارة في أديس بابا نحو خمسة عشر عاماً، فلم يعد الا بعد نشوب الحرب الإيطالية الحبشية قال:
“لم تبلغ الطيارة أديس ابابا الا عام 1927، وكان قائدها فرنسياً، وقد كان هبوطها في ساحة مغطاة بالحشائش وسط المدينة، فاجتمع الآلاف لمشاهدتها، وقد تركها صاحبها في حراسة رجال الشرطة وبينهم ضباط من الأجانب، وغادر المكان تواً الى الفندق فازدحم الأحباش حولها، وأخذوا يلمسون جوانبها واشترك معهم رجال الشرطة الأحباش الذين لم يكونوا اقل دهشة من سواهم، وتجرأ البعض فاعتلوا سطحها وجناحيها، بينما كان البعض يرسم الصليب باصبعه في الهواء.. وعلى حين فجأة صرخ حبشي مسن بصوت جهوري يدعو الناس أنها ليست الا مؤامرة مدبرة، فابتعد الجميع، ويمموا شطر الفندق حيث احتاطوا به يريدون الطيار ليعرفوا سر المكيدة..
وهناك افهمهم صاحب الفندق اليوناني وخدمه، أن ليس في الأمر مكيدة ولا سر، بل هو اختراع صناعي حديث كالقطار.. ولكن المئات ظلوا لا يبرحون اماكنهم حول الفندق نحو سبع ساعات حتى خرج الطيار وقد ارتدى الملابس العادية وصار شكله لا يختلف عن شكل اي اجنبي في أديس ابابا. بيد انه لم يكد يصل الى طيارته حتى وجدها مقلوبة على سطحها! ومن الطريف أن رجال الشرطة الأحباش انفسهم اشتركوا في قلبها ليستكشفوا سر طيرانها!
يصلّون ويكبّرون
ولقد هبطت الطيارة في عدن بقرية داخلية مستوية السطح نوعاً ما وتسمى “الشيخ عثمان” وكان ذلك في اوائل ايام الحرب العظمى، وكانت احدى فرق الجيش الإنجليزي معسكرة هناك، فلم يكد الأهالي يرون الطيارة محلّقة في الفضاء حتى وقفوا في الطريق ينظرون اليها، حتى اذا رأوها تهبط شيئاً فشيئاً ويكبر حجمها اسرع كل الى داره فأوصد الباب خلفه وكلهم مذعور خائف أن تمس الطيارة القرية بسوء، بينما انطلق الكثيرون الى مسجدي البلدة، وأخذوا يصلون صلاة الضراعة الى الله أن ينجيهم من نكبة الطيارة والحرب، وكانوا يكبرون بأصوات مسموعة الى درجة انها أزعجت الجيش الإنجليزي.
فخرج الجند يستقصون الأخبار، وكلفت قيادة الجيش موظفيها من العرب بإفهام الأهالي حقيقة أمر الطيارة وتأمينهم على انفسهم، فذهبوا الى المسجدين واندسوا وسط الجموع، ثم أخذوا يخطبون الناس مهدئين من روعهم، وقد ظل الناس في المساجد نحو اربع ساعات، ثم رأى الجيش الإنجليزي انه لا مناص من دعوة بعض كبار اهل البلدة لرؤية الطيارة عن كثب حتى يقصوا نبأهم لمواطنيهم اذ خشي أن يتكرر هذا الهرج، كلما رأى الناس الطيارة بعد ذلك.
معبودة في الهند!
واستقرت الطيارة في ثغر كراتشي لأول مرة عام 1912، وقد كان يقودها ضابط بريطاني.
وحدث قبل يومين من وصولها أن أعلنت الصحف عن موعد قدومها ومكان هبوطها، كما دعت الحكومة وجهاء المدينة لاستقبالها.
وقبل الموعد المعيّن بنحو سبع ساعات على الأقل عسكر الآلاف في الميدان الفسيح الذي أعد لهبوط الطيارة، وظل الكثيرون ينتظرون قدومها بشوق شديد، غير انه أعلن بعد ذلك أن الطيارة ستتأخر عن موعدها، وسيكون هبوطها في الصباح الباكر، ولكن الناس ظلوا طول الليل يرصدون مجيئها دون أن يبرحوا المكان، فبقوا في العراء نحو ثماني عشرة ساعة، حتى سمع أزيزها فأقبل رجال الجيش الإنجليزي لإفساح الميدان.
وكان أغرب ما استقبلت به الطيارة عند قدومها أن مئات من الهندوس خرّوا لها ساجدين! وظلوا كذلك أكثر من نصف ساعة، وفي خلال ذلك أحضرت الحكومة طعاماً فوزعته على فقراء الهندوس حينما استيقظوا من غشيتهم، فكانوا يأكلون وهم ينظرون الى الطيارة ويحدث بعضهم بعضاً قائلين:
“إنها إله يجب تقديسه وعبادته” وأخذ بعضهم يرسمها على الأرض ثم يقبل موضع الرسم!. وظل الكثيرون بعد ذلك يعبدون رسمها، ويحتفظون بنماذج مصغرة لها على قدر ما أسعف كلاً منهم تصوره ومهارته، فاذا أقبل المساء أو اصبح الصباح سجدوا لهذه الرسوم والاشكال، وهم يطلقون عليها اسم “رب النوع”.
ولما تكاثرت الطيارات في جو الهند وحارب المتنورون هذه العبادة، عادت الطيارة شيئاً عادياً ككل ما أنتجته المدينة الحديثة.