لبن أربيل المدخّن.. صناعة تتحدى النسيان

398

ضحى مجيد سعيد /

بنكهته المميزة وطعمه اللذيذ، وبكونه يصنع من حليب الأغنام التي تتغذى على مروج الجبال الخضر، نال شهرة واسعة بين العراقيين، حتى غدا لبن أربيل (المدخن) هدفاً للسياح من أهالي الوسط والجنوب وبقية محافظات العراق . شهرة لبن أربيل وتزايد الطلب عليه دفع العديد من أهالي الإقليم إلى فتح معامل تنتجُ لبن أربيل وتصدره الى عموم محافظات العراق وحتى إلى خارجه .
مميزات
وللوقوف والتعرف أكثر على مميزات لبن أربيل وطريقة صُنعه وإنتاجه، حاورنا السيد (بجار حمه حسين) – بائع لبن يبلغ من العمر ٤٥ عاماً من أهالي أربيل الذي قال: إن “صناعة لبن أربيل من المهن اليدوية المهمة التي توارثتها الأجيال، ولا تزال من السلع الرائجة وبقوة في الأسواق العراقية، وهناك من قام بإنشاء مصانع لإنتاج هذه السلعة وتصديرها الى الأسواق داخل العراق وخارجه، ولاسيما في مدينة أربيل، كونها من المدن الجبلية التي تكثر فيها المروج الخضر التي تتغذى عليها الأغنام بشكل جيد، وهذا ميرفع من جودة الألبان ومشتقاتها.”
مشيرا إلى أن “هناك قريه يُطلق عليها (قرية الألبان) وهي قرية (كاني ماران) الكائنة على مشارف بلدة رانيه شمالي محافظة السليمانية، وأن الطريق المؤدي الى القرية يوصف وكأنه معرض لمشتقات الألبان المتنوعة، والزبادي بمختلف صنوفه.”
موضحاً أن “أبرز ما يميز لبن أربيل (المدخن) هو نكهته، وأن هذه النكهة لا تقتصر على لبن أربيل فقط، وإنما بالإمكان عملها في أي بلد كان في العالم، أو ربما حتى في البيت، لسهولة عملها.” ، مشيرا الى أن لبن أربيل يحتوي على قيمه غذائية كبيرة ومفيدة، لأنه بلدي (محلي) خالٍ من المواد الحافظة أو الدهون المهدرجة، لذا يكثر الطلب عليه من قبل السياح، كما أن بائعي لبن أربيل متواجدون في بغداد والمحافظات.”
قطيع الاغنام
(شونم عزت آزاد) البالغة من العمر ٢٦ عاماً من قرية (كوندي كومه) تعمل في مزرعة قالت: “في صباح كل يوم ننتظر -أنا ووالدتي- عودة القطيع من المراعي (في الساعة العاشرة عادة)، والأغنام في هذه الفترة تكون في البرية، ولاسيما حين تخضر المراعي والمروج وتُغطيها الحشائش، فبعد أن ينتهي وقت الرعي تعود الأغنام في العاشرة، وحينها نُجهّز أنفسنا لحلبها ونقل الحليب الى الدار. قطيعنا مكون من نوعين: الماعز والغنم، لكن حلب المعزى أسهل وأسرع من حلب النعاج، بينما حليب الغنم أجود من حليب الماعز، وأكبر فائدة وأكثر تماسكاً، ولاسيما عند إعداد وتخمير اللبن الرائب منه، لبن الغنم يُحَضّر منه الجبن العادي والجبن الكردي المسمى (جاجي) وغيره، الذي يحبه الناس كثيراً.”
وأوضحت: “على الرغم من أن تربية الأغنام فيها مشقة وإرهاق، إلا إنها مصدر معيشتنا، فحياتنا متعلقة بالأغنام وألبانها، وليس اللبن الرائب (الروبة) وحده ما يستفاد منه في تربية الأغنام، بل الأجبان والزبدة والقشطة والكشك المجفف، وهو الأطيب، لأنه خال من الأضرار الصحية.” حسب قولها.
وأكملت: “نأخذ حصتنا ونُهدي قسماً منه للأهل وآخر للأقارب، أما الفائض منه فنبعثه الى الأسواق القريبة منا في أربيل.”
واستدركت قائلة: “إن الوقت الذي يستغرقه حلب الغنم ليس متساوياً، فهنالك غنم يَدُرّ الحليب كثيراً، لذلك قد نحلب الشاة الواحدة حلبتين أو أكثر أحياناً وحسب الشاة الحلوب، وبعدها نحمل الحليب الى البيت والبقية نرسله الى الأسواق، ولذلك ننتقي بعض الشياه دون البقية، بسبب جفاف الضرع (ثدي النعجة) لدى بعضها.”
وأشارت إلى أن “كثيراً من الناس يطلبون منا أن نُجهزهم باللبن الرائب أو أي مشتق آخر من حليب الشياه، وهنالك أيضاً من يطلب المذاق المعتق، وكثير منهم يخبروننا بأنهم يحبذون إنتاجنا من حليب الأغنام.”
طريقة التحضير
أما بخصوص طريقة وكيفية صنع لبن أربيل فتقول: “بعد أن نضع القدر على النار ننتظر قليلاً كي تصل درجة حرارته إلى ١٨٠ درجة ثم نضيف قليلاً من حليب الغنم على النار حتى (يلجع) أي بمعنى يحترق قليلاً، لأننا بهذه (اللجعة) نحصل على نكهة لبن أربيل المعروفة والمشهور بها، وبعدها نضع بقية الكمية المُراد تخثيرها، وقبل الغليان نُطفئ الفرن، ونُفرغ الحليب في الأوعية حسب الطلب، ونضيف إليه الخميرة واللبن الرائب، ويُمكن إنتاج مشتقات كثيرة منه.”
رائحة الدخان
أما السيد عبد الحسين رعد محسن، الذي يعمل بائع لبن أربيل في الشورجة، يبلغ من العمر ٣٥ عاماً، فيقول: “توجد مصانع في كل بلدان العالم تعمل في صنع منتجات الألبان المتخمرة، وبضمنها اللبن الرائب، وفي العراق -على وجه الخصوص- توجد نوعيه تسمى لبن أربيل او (المدخن)، والأصل هو لبن رائب مصنوع من حليب الأغنام، ولكن في الآونة الأخيرة هناك من يُصنّعه من حليب بقري وإدخال رائحة الدخان (اللجعة) بطريقة سهلة وبما يشبه لبن الغنم، إذ أن حليب الغنم يكون حساساً جداً وأثناء بَستَرَتَه (غليانه) في القدور يحترق ويعطي رائحة الدخان، التي تكون قريبة من صناعة الألبان لدى (البدو) أو الفلاحين في القرى، والغاية من ذلك الحصول على منتج يشبه منتج البدو، وبطريقة تقنية المصانع، لكن يبقى الإقبال على لبن أربيل البلدي ومشتقاته أكبر، على الرغم من وجود خطواتٍ مبتكرة وجديدة لكنها بعيدة عن طرق تحضيره البدوية، كما أن لبن أربيل عندما نخلطه مع الماء وقليل من الملح والليمون وقليل من النعناع وقوالب الثلج، فهو يعد من ألَذّ النكهات التي من الممكن أن تتذوقها في درجات الحرارة العالية خلال الصيف، وبالتأكيد في رمضان وقت الإفطار.”
وعن سؤالنا: متى أخذ لبن أربيل هذه الشهرة؟ أجاب: “منذ زمن بعيد، حتى أنه ارتبط ببعض الطُرَف الواقعية التي عادة ما تروى على سبيل الدعابة، ومنها أن شخصاً من أهالي أربيل، حين كانت الرسائل البريدية آنذاك هي الواسطة الوحيدة للتواصل والتراسل بين الأهل والأصدقاء، يُحكى أن ابنه التحق بالجيش في ستينيات القرن الماضي لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، وجرى تنسيبه الى مقر وزارة الدفاع في باب المعظم، فكتب والد الجندي رسالة إلى ولده، ولضمان وصول رسالته الى ولده بسلام، كتب في العنوان على الظرف كما يلي (بغداد – وزارة الدفاع – مقابل لبن أربيل)! لوجود محل مشهور يبيع لبن أربيل يقع مقابل مبنى وزارة الدفاع في المنطقة المحصورة بين باب المعظم وساحة الميدان، إذ أن البغداديين كانوا يعشقون لبن أربيل، وجبن الأغنام والماعز الذي يُجلب من الشمال باعتبار أن شهرة لبن أربيل الكبيرة أصبحت من الدلالات البارزة في بغداد.” حسب قوله.