مائدة نزهت…نورسة المقام..

934

أحمد هاتف /

بصمت أزرق، كما الحزن، رحلت نورسة الغناء العراقي مائدة نزهت.. لم تدفع السيول ولا الأمطار الكثيفة دجلة للاختناق بدموعه مثلما فعل غياب سيدة المقام..
بصمت لا يليق ببغدادية بعيون واسعة كالشروق، رحلت مائدة نزهت، تاركة على ضفتي النهر صوتاً كان يخالط هواء الليالي، صوتاً أيقظنا من سبات الستينات على مدّ الأغنية الجديدة، تلك الأغنية التي تشاغبت مع ابتسامة مائدة التي تشرق من أجلها الشمس، مائدة التي لوّنت رجولة المقام وهذّبت البستة، ودفعت الأحمر في زرقة حزن الأغنية العراقي” حلوين” و “سألت عنك” و “يمسيرين البلم” وغيرها من الأغنيات التي شكّلت قوام الجمال في أعالي التبغدد في السبعينات والثمانينات.. تلك السيدة المهذبة التي تستقبلك بابتسامة خاتون بغدادية، شكلت حجر الزاوية في النغم العراقي، وكانت امتداداً حقيقياً لـ “زكية جورج وسليمة مراد وزهور حسين وعفيفة اسكندر و لميعة توفيق”، هذه الأسماء التي أظهرت هوية الأغنية البغدادية، مع مجموعة من الملحنين الكبار بدءاً بـ “صالح الكويتي وناظم نعيم ورضا علي وأحمد الخليل ويحيى حمدي وسمير بغدادي وفاروق هلال” وآخرين.
كانت مائدة نزهت فاكهة المساءات، ولم يدُر في ذهن الزمن أن تتغيب خاتونة بغداد عن الحضور، غير أنها اختارت الصمت في أوج حضورها وانسحبت الى الظل، ربما لأنها ادركت أن جمهوراً كالذي اعتادته لم يعد ينجبه رحم الزمن، وربما لأنها لم تعد تستطيع أن تحلّق كنورس، وربما لأن ملامح بغداد لم تعد بيضاً بما يكفي، لذا لاذت بصمت الاعتزال وهجرت بغدادها الى المنفى.
ورغم كل عتوّ الغياب ظلت نورسة المقام العراقي حاضرة في شغفنا، نحن الذين كلما تاقت أرواحنا إلى التحليق لذنا بـ “حلوين”، هذه الأيقونة الغنائية التي شكلت مفتاح التحليق لأجيال كثيرة… فالعراقي الذي يأكله الحزن لا يجد سوى “سألت عنك” او “حلوين” ليصرخ من خلالها بالجمال والسكرة، ومن يستطيع ألّا يرى دجلة، عليه أن يفتح نافذة على أغنية لنورسة المقام وسيحضر دجلة وستأتيه شناشيل الكرخ وتتطاير في مخيلته عباءات وشغف وتلويحة نارنج وهفيف شبوي وأمومة رازقي،.. آه يا نورسة الروح… هل يمكن للغياب أن يلمك بكل أساه.. مائدة نزهت أيتها الأسطورة العاطفية والفنية التي لا تقهر… شكراً خاتون كانت الشمس تحضر باسمة فقط مع صوتك..
نامي بهناء يا أمنا العظيمة.