ماالذي يتوجب علينا فعله إن وصل العدو إلى الأبواب؟
مقداد عبد الرضا /
داعش على الأبواب, الموصل تنحر بقسوة, يتصدى لها البواسل من شرفاء البلاد ويستعيدونها, ما خلفته تلك المأساة من دمار, وتهجير واغتصاب, وتهديم, وعويل وصراخ , أماكن أشباح, كل هذا مر بسهولة, مر وكأن شيئاً لم يحدث, مر على السينما بسهولة, لا أحد فكر في تلك القصص المروعة والمفزعة كي يحولها الى فيلم نصفق له, فكل ما أنجز يخدم إعلام الحكومة وهتافاتها, نحن بحاجة الى هدوء كبير حتى نمسك بخيط قد نسميه: الوطنية الحقة، وطنية البلاد وليس سواها.
من كان يجرؤ على تحويل رواية أمبرتو إيكو(اسم الوردة) الى فيلم سينمائي؟ لابل الى فيلم مهم؟ الكل توقع الفشل, لقد كتبت الصحف والمجلات الكثير بشأن هذه التوجسات, لكن المخرج (جان جاك آنو) استطاع أن يتصدى للرواية وبقدرة فائقة كي يقدمها كشريط سينمائي مهم يقف به نداً للرواية.
آنو، ومنذ بداية حياته السينمائية قدم إنجازات مهمة في عالم السينما بدأها في العام 1977 بفيلم (أبيض وأسود بالألوان), ثم جاء بعدها بفيلم آخر استطاع أن يضعه فوق خارطة العالم ويؤشر له بأنه من المخرجين المهمين, إنه فيلم (عربات النار) أعقبه بـ (اسم الوردة)، بعدها قدم رائعته (الدب)، تلك القصيدة التي زاد في ألقها أنها تكاد تخلو من حوار. بعدها قدم أفلاماً عديدة أخرى من بينها رواية مارغريت دورا (العاشق) وألحقها بفيلم آخر(سبع سنوات في التبت) لتفتح له هوليوود الأبواب ليقدم فيلماً أخاذاً يعد واحداً من أفضل أفلامه (العدو عند الأبواب), تحفة سينمائية بعيدة تماماً عما تقدمه او تنتجه هوليوود من أفلام الأكشن والمطاردات والمعارك وعرض لحكاية ينتصر فيها البطل في النهاية ويعود جميلاً أنيقاً نصفق له طويلاً ونحاول أن نكون مثله او نتمنى ذلك. قدم آنو فيلمه بقدرة فائقة وبإحساس بصري عال وحركة كاميرا مدروسة بإتقان, كانت معارك ستالينغراد من أكثر معارك الكون دموية وقسوة, تلك المدينة التي كانت تعج بالحياة حين كان يقطنها نصف مليون إنسان, فجأة تتحول الى مدينة أشباح يغلب عليها اللون الرمادي القريب الى الموت, لم يبق في تلك المدينة بعد الحصار وصمت المدافع سوى ألف إنسان, خراب تام. من بين هذا الركام والعنف البشري اختار كاتبا السيناريو الفرنسيان آلان جودار والمخرج نفسه مادة الفيلم والصراع المهيمن عليه, نحن أمام شخصيتين حقيقيتين تمثلان الاحتدام الحقيقي في من له القدرة للهيمنة على هذه المدينة, الأول الجندي فاسيلي زايتف, الشاب البسيط القادم من إحدى قرى ستالينغراد النائية, يمثله (جد لو) باقتدار عال, والثاني هو الميجر كونج، ذلك الجنرال الهادئ كالموت والفائق في السيطرة على كل شيء, الأرستقراطي القادم من أغنى مقاطعات المانيا وأعرقها, بافاريا, يجسد الدور (إيد هارس). نحن في خريف عام 1942, سيحل الشتاء سريعا, فالشتاء التالي هو الحصار الذي دمر مدينة ستالينغراد, يبدأ المخرج آنو فيلمه باستعراض قوة كبيرة تتعرض للقصف المدمر مع وصول الجندي فاسيلي الى المدينة المدمرة, إنه القناص الذي تدرب بشكل دقيق على هذه اللعبة, يعمل تحت وابل القنابل والمدافع وتحت هذا الضجيج العارم لا أحد يسال عن أحد, هنا لا أحد يعرف مقدرة فاسيلي في القنص فهو مثله مثل الكثير من الجنود الذين يرسلون الى جبهات النار، لكنه حينما ينجح في قتل خمسة جنود ألمان بخمس رصاصات ينكشف أمره وتسلط عليه الأضواء كونه قناصاً بارعاً, هنا يتقدم منه موظف إداري (جوزيف فاينس) ويقنعه سريعاً بالتحول الى أداة إعلامية بإمكانها أن تعيد للقوات الروسية ثقتها ومعنوياتها، ويتحول فاسيلي الى بطل قومي مانحاً جيشه معنويات عالية, هنا يستدعي الحال استدعاء ضابط ألماني متخصص بالقنص هو الآخر ليكون نداً لفاسيلي, حتى يتخلص الألمان من هذا الجندي الذي أرعبهم بقدرته في تحديد الهدف. إذاً الاثنان يعرفان مقدرتهما في هذه اللعبة، ومن هنا تبدأ المناورات, قناص ضد قناص ومن ستكون له الغلبة؟ فاسيلي يعرف مقدرة كونج ومدى دقته في تحديد الهدف واقتناصه وكذلك كونج يعرف فاسيلي ومقدرته, الفرق ان مقدرة فاسيلي طبيعية جدا وعفوية, اما الألماني فإن مقدرته متأتية من تدريب قاس,على الألماني ان ينجح لأنه الأكفأ ولأنه إن فعل ذلك فسيساهم في انهيار معنويات الجنود الروس التي كانت قد ارتفعت بهمة فاسيلي. انها لعبة, اهرب واختبئ, قط وفار, مناورات, رصد خطير ودقيق أحدهما للآخر, الجو المدمر الذي خلقه آنو واستفاد منه كثيرا, قد يكون هناك مأخذ على سير الأحداث وهذا الجو الملبد بالموت, ربما من أجل الإطالة وان يكون وقت الفيلم مناسباً, او من أجل كسر شوكة التوتر والانفعال, لقد خلق لنا الكاتب قصة حب تكاد تكون مفتعلة, الفتاة الواقعة في حب فاسيلي لديها الآن فرصة للتحدث عن موت أبويها على يد قوات متحالفة مع العدو, هذه الإشارة بالحب يلاحظها المدير السياسي المسؤول عن الدعاية فيبدأ بالتنصل عن فاسيلي أمام المسؤولين, ثم يحاول أن يوقع به في فخ العدو, القناص الرابض في الجهة الأخرى, هناك أكثر من منطقة نجح المخرج في رصدها أيضاً وعرضها بشكل رائع وبخاصة المشهد الأخير حيث المواجهة بين الجندي فاسيلي والميجر كوجو, انها المرة الأولى والأخيرة التي يلتقيان فيها, وعلى طريقة افلام الويسترن, يلتقيان في ساحة مكشوفة اذ خرج الاثنان من مكان اختبائهما بعيداً عن عالم التوتر والرصد والقنص غير المباشر, هنا يتحول الخصم الألماني الى رجل حانت ساعته ومدرك أيضا انه هو الآخر قد فقد ابنه في الحرب ومايقوم به هو جزء من واجب يؤديه جندي يستعين بالأحقاد من اجل ان نطلق على مسعاه تعبير واجب وهو شعور يجعل كفة الحرب غير راجحة بشكل عام تفقد جدواها, الممثل يساعد كثيراً في خلق الجو الملائم, وهذا ما جسده (إيد هارس) الرائع, ذلك الأداء الأخاذ الذي حافظ فيه بقوة على مجسات الشخصية وتركيبها الصعب, ذلك الضابط الأرستقراطي المنتمي الى خلفية عسكرية كثيرة التعقيد, في الجهة الأخرى يقف نداً قوياً ومتمكناً من أدواته الممثل (جد لو) او فاسيلي القناص الذي وازن كفة الفيلم الاخرى, لكن يظل (إيد هارس) يحمل طعماً آخر خاصة بعد ان ابتعد عن لكنته الأمريكية التي لو بقيت لهدمت جزءاً مهماً من اجزاء الفيلم. رصاصة واحدة بين العينين تنهي ذلك الصراع وترتفع فيه معنوايات الجنود الروس, البقية من الممثلين لم يكونوا بمستوى أداء البطلين, تنفرد عنهم الممثلة الألمانية (ايفا ماتيس) التي مزجت بين الروسية والانكليزية ما اعطاها تميزاً واضحاً. أخيراً علينا أن نعرف أنه طوال اكثر من 70 عاماً ومنذ معركة ستالينغراد ظل الجندي فاسيلي زاتيف بطلاً قومياً روسياً، ليس فقط بحصوله على وسام الدولة ولمرات عدة او وسام الاتحاد السوفيتي، ولكن تحوله الى اسطورة يتحدث عنها الناس وعاشت في أذهانهم، وماتزال بندقيته محفوظة في متحف التاريخ في مدينة ستالينغراد, أما خصمه الميجر كونج فما تزال بندقيته محفوظة الى اليوم في متحف القوات المسلحة في موسكو.