ماذا رأيت في بغداد؟
ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
في العام 1936 زار جبران تويني صاحب جريدة النهار اللبنانية بغداد لتغطية اخبار انقلاب بكر صدقي كأول انقلاب عسكري في الشرق الأوسط. وقد كتب ثلاث مقالات عن زيارته وقامت جريدة الطريق البغدادية التي كان يصدرها جعفر ابو التمن بإعادة نشرها في الصفحة الاولى من الجريدة. وقد نشرنا سابقا الجزء الاول والثاني وهنا الجزء الثالث والأخير.
أطلت علينا بغداد من بعيد، والسيارة تنهب بنا الارض، فلمحنا غابة مستطيلة من النخيل، طلعت من الأفق في غلالة من ألوان الفجر، تشرف عليها قبتان ذهبيتان، يشع منهما نور أعارته الشمس لمعانها، هما مسجد الكاظمية الشهير.
هذه عاصمة المنصور والرشيد والمأمون، بل هي عاصمة الأمين، اذا نحن جارينا الاستاذ إسعاف التشاشبي في قوله إن دولة الأمين كانت الدولة العربية في دول العباسيين الى الشرق والغرب، فكانت “باريس” عصرها بما اجتمع فيها من علماء وشعراء وفنانين، وما وزعته على العالم من شعر وعلم وحضارة.
هذه هي المدينة التي كانت عاصمة العروبة ثم عاصمة الإسلام، ثم عاصمة فارسية الحضارة عربية اللسان، ثم طغت عليها الشعوبية فجعلت من خلفائها أسرى للموالي من الديلم والترك وما اليهم من الشعوب، فذبلت تلك الحضارة، وزال ذلك الملك الضخم، وجاء هولاكو فقضى على ما أبقاه فيها عصر الانحطاط من حياة. وهذه ايضاً مدينة “ألف ليلة وليلة”، الكتاب الذي لم يبلغ كتاب عربي ما بلغه من شهرة في العالم، والذي لا يزال الأجانب ينظرون من خلاله الى بغداد، دار السحر واللذائذ والفنون، ويبحثون عن الأماكن والأشخاص الذين كان يرد ذكرهم على لسان شهرزاد في لياليها الملاح، قبل أن يدركها الصباح.
وهذه ايضاً مدينة أبي نواس….
ولكن مالنا ولأبي نواس ومجالسه، وتهتكه وشعره، إن مجال هذه الرسالة أضيق من أن يتسع للحديث عن هذا الشاعر الفذ، الذي لم يترك لذة بدنية أو روحية، الا استمتع بها ملء جسده ونفسه، وخلع منها على عالم الشعر أثواباً يزداد فنونها كلما تقادم عليها الزمان فلترك أبا نواس وأنداده، وأحاديث شعره وعبثه ولهوه، فالمجال اليوم للسياسة لا للأدب، والتتحدث اليك ايها القارئ الكريم عما رأيته من أحداث السياسة في العراق، وما شهدته من مظاهر استقلاله المتين ونهضته الصحيحة.
واذا كانت حوادث الانقلاب الأخير قد فاجأت العالم وحصرت فيها اهتمام الناس، فإن مراسلنا في بغداد قد روى شهوة القراء وأطلعهم على الحوادث حين وقوعها، ولكن لهذه الحوادث أسباباً ومسببات يجدر بالباحث أن يوليها عنايته.
استقلال صحيح
في العراق استقلال صحيح، مهما حاول بعض ضعاف الإيمان ان يغمقوا ويشيروا الى اثر الانكليز في تسييره، وليس هذا الاستقلال قائماً في النصوص والمعاهدات، بل هو قائم في نفوس العراقيين جميعاً، على اختلاف ألوانهم ونزعاتهم وعناصرهم فكل عراقي يعتبر نفسه حارساً أميناً لاستقلال بلاده، يفديه بما عز وهان، وندر أن تجد بين أقطاب العراقيين من لم يشترك في ثورة ضد الاحتلال، أو يساهم في العمل على التحرر منه. وقد جرى الانقلاب العسكري يوم الخميس 29 تشرين الأول، كما يجري كل انقلاب من نوعه في بلدان العالم المستقلة مع وجود طيارات انكليزية وجيش انكليزي في مطار الهنيدي، فلم يظهر للانكليز أي اثر، ولو هم تدخلوا في الأمر أقل تدخل لانقلب العراقيون عليهم متفقين، متناسين كل خلاف داخلي.
ومن الأدلة على حرص العراقيين على استقلالهم ما سمعته في إحدى الحلقات السياسية بعد الانقلاب، فإن البرقيات نقلت فترات من خطاب المستر بلدوين الذي لمح فيه تلميحاً غير مستحب الى الوزارة الجديدة، وكان في الحلقة فريق من خصوم الوزارة الألداء، فتحمسوا وقالوا إننا سنتفق مع الوزارة اذا كان الانكليز سيحاربونها وفي هذا دليل على نفسية العراقي في النظر الى استقلاله. وما دمنا في صدد الحديث عن الانقلاب فمن الإنصاف أن نقول أنه جرى بسرعة خاطفة وإحكام مدهش، يندر أن يقع منهما في أكثر البلاد رقياً، وأصدقها نظاماً فكان الجيش يتهيأ للزحف، والطيارات تحوم في جو العاصمة، وكان الوزراء مجتمعين لدرس الموقف، والقلق يغمر النفوس. ومع هذا كان النظام سائداً بشكل مدهش، وكان الناس منصرفين الى اعمالهم يشتغل كل منهم بما يعنيه. وهذا من أكبر الأدلة على روح التنظيم القاضية بأن يحصر كل انسان اهتمامه بما يعنيه لتنظيم سير الأمور، وذلك بعكس الحاصل عندنا، اذ تقوم البلاد وتقعد لتعيين ناطور وعزل بلدية، فيشمل الاهتمام بهذا الموضوع “الخطير”… الكبير من الناس والصغير!..
وفي العراقيين مزية ليت رجال السياسة عندنا يقلدونهم فيها، فإن الخصومة السياسية تدفع بعضهم الى الطعن بالبعض الآخر ولكنهم يستاءون اذا ما شاركهم غريب عنهم في الطعن، عملاً بقاعدة “أنا على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب”.
وهذا عكس ما يجري عندنا تماماً، فإن الرجل منا لا يتورع عن الطعن بخصمه أمام الغريب، ويستدرج الغريب لشهوته في الانتقام. ويشعر الغريب عن بغداد لأول وهلة أنه في بلد ناشئ، شديد القابلية للنمو والحقيقة ان العراق يتطور بسرعة، وقد لا تمضي عليه سنوات الا وقد سبق كثيراً من الأقطار المجاورة، التي تدعي انها سبقته في مضمار التعمير والازدهار. ذلك ان العراق يملك كل اسباب النمو والتطور والإنشاء، فهو غني بأرضه، غني بمياهه، غني بما في صدور أبنائه من الإيمان بحقهم في الحياة، ومتى ما توفرت الثروة الطبيعية ورافقها حب الوطن الصحيح، والعمل في سبيله بالأساليب الصحيحة، فالنجاح مكفول لقد قال شوقي رحمه الله عن العراق في نهضته الحالية: أمة تنشئ الحياة وتبني..
وقد صدق شوقي، ان العراق ينشئ الحياة بسرعة، جعل الله التوفيق حليفه.