ما أكثر الكتب التي لم نقرأها!

1٬265

عبد الزهرة زكي/

كلما قرأت منشوراً لصديق (أو صديقة) في فيسبوك يهدّد فيه أصدقاءً له بحذفهم لعدم مرورهم بمنشوراته والتعبير إزاءها يراودني شعورٌ بالقلق ما إذا كنت مقصوداً.

قد لا يكون شأنا مهماً ذلك الحذف، لكن التعاسة هي في شعور إنسان ما بأنك تتعمّد اهماله، شعور قد يكون غير صحيح، لكن مجرد أن يشعر إنسان بذلك الإهمال فإنه (الشعور) يكون مشكلة للاثنين؛ المُهمِل والمهمَل..

ما أكثر الذين لا نصادف منشوراتهم!

الأكثر مرارة من هذا هو ما أكثر الكتب التي لم نقرأ، ما أقل ما قرأنا.

كلٌّ منا له طاقة محدودة ووقت محدود ومزاج لا يستقر معظم الأحيان، ما لا نفضّل مطالعته الآن قد نفضّلها في وقت آخر، وحتى قد لا نطالعها البتة. هذه ظروف وطبائع لا يمكن للمرء الاتصالي معها أن يكون اتصالياً بلا حدود ليمرَّ على كلّ ما في فيسبوك أو ليقرأ كل ما يُطبع.

في الحياة أيضاً لنا عشرات الأقرباء والأصدقاء والمعارف.. وأحياناً، وفي لحظة شرود ذهني، تمرّ بأحدهم فتسهو عن إلقاء التحية.. هذا أمر أشد حرجاً، وأتحسب كثيراً منه، ولكني كثيراً ما أقع فيه. دائماً هناك شيء في البال يجعل المرء بعيداً عن المكان والناس وحتى عن جسده. الجسد بمثل هذه الحالات يتحرك بموجب إيعازات لا إرادية أو بموجب ما انتظم عليه في عاداته اليومية مما لا يحتاج معه إلى انتباه واعٍ وتنظيمٍ لحركته وتصرّفه.

المرور بناس، بينهم معارف، في مثل هذه الحالات الشاردة، له شبه كبير بالمرور بمحتويات صحيفة.. ففي العادة نحن نقلّب الصحيفة؛ نمرّ بصفحاتها فيما الذهن منصرف عنها، إنه يتحرى عن شيء ما في الجريدة، شيء غير محدد وغير واضح، ولكن ما ان تصادفه العينان حتى تتوقف لا إرادياً عنده وتسلِّمه إلى الذهن.

ليس ممكناً لي، ولا لسواي أيضاً، أن نقرأ كل ما في الصحيفة. في ميديا التواصل يحصل مثل هذا، لا تمكن قراءة كل ومشاهدة كل ما فيها.

كانت الصحف هي الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشاراً وتوصيلاً، خصوصاً في المجالات الثقافية.. فكان من الطبيعي أن أمرَّ يوميا بالصفحات الثقافية.. هذا المرور يسمح بتكوين تصوّر ولو محدود عن الحياة الثقافية، لكن قراءة كل ما يُنشر في تلك الصفحات أمر مستحيل. بعض الموضوعات تمرّ عليها من خلال عناوينها وأخرى من خلال أسماء كتّابها. تتكون لدى القارئ الخبير، خصوصاً حين يكون معنيّاً بالكتابة، تصوراتٌ واضحة وكافية عما يفضّل ويحبّ أن يتابع من الكتّاب والموضوعات.. متابعة كل شيء هي تضييع لكلّ شيء وعدم إمساك بأي شيء.

حياة كاتب، حين تكون الكتابة بالنسبة إليه فعلاً يومياً، لا تسمح بتلك المتابعات المنتظمة التي كنّا عليها حين كان الراديو والتلفزيون والجريدة هي عالمنا التواصلي الأساس بعد عالم الكتب والسينما والفنون.

حتى قراءة الكتب ما عادت اعتباطية كما كانت عليه من قبل، بالنسبة لهذا الكاتب. كانت الكتب الجديدة الصادرة في بغداد والعالم العربي والواصلة إلى المكتبات محدودة، وكان هذا يسهم في جعل القراءة اعتباطية وتخضع لمصادفات وصول كتاب معين. لقد كان يمكن لقارئ نهم، بشيء من التنظيم والمواظبة، أن يسيطر ويقرأ كل جديد بالعربية لقلة الجديد المطبوع والمتوفر. لكن الكتب القديمة هي الأكثر من الجديدة دائماً، وهي، بفعل كثرتها ووفرتها، تسمح بالتخطيط والإرادة في انتقاء ما نفضّل منها وما نحتاج إليه.

في الشباب يكون الطموح أكثر سعةً، رغبة بامتلاك أي شيء والتوفر على ما نسميه (معرفة شيء عن كل شيء) كلما كان ذلك ممكناً. بينما التقدم في الخبرة والحياة ينتهي إلى الخلاصة التي لابد منها؛ إن معرفة شيء محدود في أي موضوع لا تعني المعرفة بالموضوع. لقد اختصر بيت شعري عربي قديم هذه الرغبة الطامحة وربما المتبجحة حين قال أبو نواس:

قل لمَن يدّعي في العلم معرفةً

لقد حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ.

الكتاب لم يعد وسيط القراءة الوحيد. لا أشير بهذا إلى الكتاب الإلكتروني كبديل للكتاب الورقي المطبوع قدر ما أعني دخول وسائط جديدة للقراءة واستحصال المعرفة والمتعة؛ السينما والتلفزيون والمسارح ودور الأوبرا وكاليريهات الفن ومتاحف الآثار والفنون والعلوم وسواها، هذه كلها كتب مرئية ومسموعة، إنها وسائل معرفة وإمتاع تنافس الكتاب المقروء واحتكاره القديم لكل خبرات الإنسان ومهاراته ومواهبه. لكن من الكتب المطبوعة ما يظل جامعاً لكل تلك الوسائط المستحدثة والمتنامية.

الكثير من هذه الوسائط قد لا تكون متاحة في العالم الواقعي، كثير منها غير متاح لنا، لكن يوتيوب بات وسيطا كونياً يتيح لأي منا محاضرات كبار الكتاب والمفكرين وبمتعة تضاهي متعة القراءة، فيما لا أغزر من نتاجات السينما والأوبرا والموسيقى والرقص على يوتيوب، مكتبة العالم الأغنى.

هذه تحديات تجعل المرء بشكل عام والكاتب بشكل أخص أمام عجز القراءة والتواصل مع كل ما متاح. وقد لا تعني هذه التحديات القارئ العام بشكل أساس لكن المعنيّ بالكتابة يدخل في صميم هذه المشكلة وتبعاتها. إنه طاقة محدودة..

مع تقدم العمر والخبرات يميل الكاتب إلى الانتقاء القائم على الحب والمتعة حيناً والحاجة الفعلية حيناً آخر فيما يقرأ أو يشاهد أو يستمع. ليس هناك ما يكرهني على قراءة كتاب عصي على المحبة ما لم تكن هناك حاجة فعلية تتطلبها الكتابة أغلب الأحيان وليس فضول المعرفة، وإلا فإن المتعة تظل دافعاً أساساً يتحكم بتفضيل هذا الكتاب على سواه في أولويات القراءة.

ما أكثر الكتب التي قرأناها في الشباب مضطرين؛ يأتي كتابٌ لا تتوفر منه نسخة غير التي تأتي بمصادفة وتُستعار من صديق يحدّد لك وقتاً لا ينبغي تجاوزه من أجل الانتهاء من الكتاب وإعادته. تقرأ بدافع الفضول أو بحكم ضغط اسم المؤلف أو الشهرة الصحفية للكتاب، وقد تكون تجربة القراءة محبطة وغير مجدية.

القراءة عمل ممتع لكنها أيضاً تظل عملاً شاقاً، كل قراءة تستحثّ التفكير وعناءه، عناء مشاركة المؤلف والكتاب أفكاره ونجاحاته واحباطاته وفشله. القراءة تخلق للقارئ عالماً من التفكير والتأمل محايثاً لعالم أفكار الكتاب المقروء ونتائجه، وإلا، بخلاف هذا التفاعل، لا تكون القراءة فعلاً منتجاً وإيجابياً.

تجارب القراءة الفاشلة والمحبطة التي تقرأ فيها كتاباً لستَ متأكداً من قيمته وجدواه ومتعته هي تجارب لا تقل في ضررها عن أخذ كبسولة دواء خارج الحاجة الفعلية إليها، وهي بالنسبة لكاتب لا تقل فداحة عن استغراق وقت في كتابةِ شيء ينتهي منه فلا يقتنع بجدواه فيمزقه أو يحذفه من ذاكرة كومبيوتره. من هنا تأتي مشكلات الكاتب مع القراءة (الفائضة عن اللزوم).
كم أضعنا من فرص لقراءة أعمال مهمة، وكم أهدرنا من الوقت مع ما لا يستحق حتى الجهد الطباعي الذي أُنفق من أجله.
خسائرنا مما تفوتنا قراءة كتب ومنشورات مهمة غالبا ما يكون ثمنها باهظاً بالقياس والمقارنة مع خسارتنا للوقت والجهد مع ما لا يستحق القراءة.

وهذا يحصل حتى في ميديا التواصل التي يفوتنا فيها كثيرٌ يستحق الوقوف عنده.. ولكن حين يقبل المرء بالربح عليه أن يتوقع الخسارة أيضاً.