متى نتخلّص من طائفيّتنا؟
علاء البغدادي/
أصبح لمفهوم الطّائفيّة بعيد المدى وعميق الأثر في جغرافيّتنا العربيّة والإسلاميّة، حتّى اكتسب الحصانة القوميّة والقداسة الدّينيّة، فأصبح تداول مقوّماته في أوساطنا أكثر من محدّدات الأخوة القوميّة والإسلاميّة الجامعة لكلِّ المتنوّع الوطنيّ والشّعبيّ والقبليّ، وبالتأكيد هناك مسبّبات ومسهّلات وأجندات دقيقة تتعلّق بموضوع الطّائفيّة، وإلا لكانت مجتمعاتنا الأكثر تمدّناً وتعايشاً وتسامحاً وإنسانيةً من غيرها بالرجوع لخصائص الاجتماع الإسلاميّ.
طائفيّة محجّبة
إنّ الحديث حول الطّائفيّة هو بالعمق، ليس حديث الاجترار للهمِّ الاجتماعيّ والسّياسيّ والغبن الثّقافيّ في تفاصيل الحياة العربيّة والإسلاميّة المعاصرة، وإنما هو حديث غرضه التّفكير في تنمية شبكة العلاقات العامّة بين مكوِّنات ظاهرة الطّائفيّة والتي تتمثّل في الطّوائف المتغايرة والمتوجّسة من بعضها البعض داخل المجال الجيو/ سياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ الواحد وحتّى الدّينيّ، وهذه التّنمية التي نستهدفها صورتها الشاملة «الأمّة» وحركتها المبتغاة «التّعايش»، يعني لماذا نتحدّث عن الطائفية من خلال التّفكير الرّجعيّ الضيّق؟ وهل الطّائفية كظاهرةٍ إنسانيّةٍ وجدت لغاية الاصطفاف أم لأمرٍ آخر؟ هذه أسئلة أساسية ومحورية في مشروع وعي مفهوم الطّائفيّة، ولعل من مسبّبات شيوع التّفكير الرّجعيّ في الطّائفيّة أكثر من التّفكير الستراتيجيّ، هو معضلة عقدة القابلية للجمود في داخل العنصر الطّائفيّ، حيث الطّائفة التي تعمل على فتح مجالاتها على الهواء الطَّلق، تعتبر بمرتبةٍ أسمى وأكثر حضاريّة في وعي ماهية الطّائفيّة في عمقها الوجوديّ. أما العكس فيترتَّب على ارتهانها لعقدة الجمود، عدوانية عنصرها البشريّ واضمحلال مقدّراتها الإنسانيّة لدرجة الانتقام الطّائفيّ النّابع من مخزون الاكتئاب داخل الطّائفة الجامدة وتراكم حالات التّعصّب من جرّاء التّخمُّر وانعدام التّهوية الفكريّة والثّقافيّة والإنسانيّة. وهذه المقاربة لمفهوم الطّائفيّة في شَقَّيه الجامد والحركيّ، يمكن وعي تفاصيلها بالعودة لنظريّة الثّقافة عند المفكِّر «مالك بن نبي» وتحديداً عالم الأفكار في العالم الإسلاميّ وثقافة التّعايش، بصيغة مبسَّطة هناك سقوط اجتماعيّ حاصل لدى الطّائفة التي تحجب طائفيّتها عن الحالات الطّائفيّة الأخرى القريبة والمتداخلة معها في العديد من مجالات الحياة.
الكذب على الذات
فالطّائفية سلعة رائجة هذه الأيّام، هناك من يعبّر عنها في سياق خطاباته الانفعاليّة وآخر يوظّفها في طبخاته المصلحيّة والباقي يجسّدها أكمل تجسيد عبر العُجب المذهبيّ والبهرجة الإعلاميّة والفوضى السّياسيّة، حيث لا أحد يقبل أن يوصف بها إلا أولئك الذين بلا نيرانها لا تأثير لهم (سياسيّاً أو إعلاميّاً أو مذهبيّاً).
الطّائفيّة في تعريفها البسيط، هي الكذب على الذّات والجماعة عبر إرباك الواقع بالمتناقضات بما يحقّق التّأزيم الهادف لفرض العصبيّة. والطّائفيّة هي نتاج بروز حالة التهاب بالعقل الجمعيّ العامّ، وخطورتها لما ترتبط فيه بالسّياسة والدّين، ودعائمها الأساسيّة هي الاستبداد بشكلٍ عامّ في شتّى مجالات الحياة، وكلَّما دقّقنا في حيثيّاتها الفنيّة والعمليّة، وجدناها «أفيون الشّعوب»، لأنّها تفسد العقل الجمعيّ، فلا يلتفت إلى السّبل والمناهج والأدوات الحضاريّة العادلة للوصول للاستقرار السّياسيّ والاجتماعيّ والنّهوض الاقتصاديّ.
صناعة التباغض
الطّائفيّة لا يمكنها أن تعيش في واقعٍ قائمٍ على ثقافة الحوار والتّعارف والتّسامح والتّعايش والتّعاون والتّشاور والتّواصل والوحدة وما هنالك من قيم التّمدُّن والتّحضُّر، لذلك من مؤشّرات تفشّي الطّائفيّة في أيّ مجتمعٍ، أن تجد بعض أفراده لا يستحون من ضرب الأعراف والأخلاق والقيم الاجتماعيّة، عبر التّرويج للعصبيّات الجاهليّة وتضخيم المشاكل والتّشكيك في النّوايا وتفجير الصّراعات بين التعدديات والتّعامل على أساس الانتماءات الذاتيّة والحزبيّة والجهويّة.
ترى هل مشكلتنا سياسيّة فقط؟ أم هي في العمق استقالة اجتماعيّة من الواجب الإنسانيّ الحرّ؟
المأزق السّياسيّ هو صورة لهشاشة ثقافيّة في عظام اجتماعنا الإسلاميّ العامّ، ليس السّياسيّ فقط، بالعكس مفهوم المدنيّة الذي وظّفناه سلبيّاً سمح للسياسة أن يحرّكها المصلحيّ والمنافق وما هنالك من الظالمين لأنفسهم وللأمّة والأجيال الصّاعدة، كما فرَّطنا في المنبر الدّينيّ والثّقافيّ، أن يصعد ويخطب عليه من هبَّ ودبَّ ممن لا يتّقي الله في الأمّة ووحدتها، فيُدخِل للجنّة أو النّار من يشاء على شاكلة صكوك الغفران، لكن بأسلوب التّمويه المذهبيّ، وانتهينا إلى صناعة التباغض المذهبيّ في أحشاء شعوبنا بدلاً عن التّعارف المذهبيّ، حتى صارت الدّعوة للتّعايش والتّسامح واجب إثباتها، بينما الطّائفية هي العرف السائد!
فوضى الثقافة
في واقعنا العراقيّ، فإن الطّائفية مفهوم يتحرّك في فوضى الثّقافة، لذلك لم يتمكّن من الارتقاء إلى ظاهرة التّعايش أو العيش المشترك القائم على روح الأمّة الواحدة وثقافة الأخوّة والتّسامح، وبالتّالي فمحاولة الحديث عن تجسير الأواصر بين فئات المجتمع العراقيّ، هي من المحاولات التي يُمكن القول عنها، بمثابة التّحليل والاستشراف لمكوّنات المجتمع العراقيّ (الشّرائح المتباينة داخل المفهوم المجتمعيّ للعراق).
ومن الأسباب الدّاعية لتلك المحاولة، هو استشعار القلق والذي أساسه تباين وجهات النّظر في مرحلة سابقة، نتيجة تدخُّل الخارج وتسخيره للشّحن الطّائفيّ بطريقٍ أو بآخر، وفي مرحلةٍ لاحقة تتمثّل باستشعار القلق من أن تعود المناهج الخاطئة مرَّة أخرى.
بمعنى أنّنا في مواجهة مأزقٍ كبير يستدعي التّدابير الّلازمة لحلحلته، ومن البديهيّ أنّنا بحاجة إلى إيضاح المسبّبات ونتائجها، ومن ثمّ الخلوص إلى علاجها، سواء ارتبطت آليّات العلاج بعمليّة بناء الثّقة أو إنهاء حالة الخوف المستشرية.