محلة العاقولية .. اختفت من الواقع وحضرت في كتب التاريخ

1٬579

عبد الجبار العتابي /

خلف تمثال الشاعر الرصافي على شارع الرشيد تقع محلة العاقولية، ويمكن النظر اليها من هذا المكان للدلالة السهلة عليها. وفي البحث عنها في التاريخ البغدادي نجدها راسخة في أعماقه وقد امتلكت مقومات وجودها. وكانت مشرقة بين المحلات البغدادية ومؤثرة في حضورها، فقد عاشت في بيوتاتها شخصيات لها ثقلها.

وقد تتأمل كثيراً المشهد أمامك وأنت تعرف أن من هذه المحلة خرجت الشاعرة نازك الملائكة وأختها الكاتبة إحسان الملائكة وهن من بنات صادق جعفر جواد المؤرخ الشاعر وأستاذ اللغة العربية. والأغرب أن عدد نفوس هذه المحلة قبل مئة سنة كان (1237) نسمة بينما الآن لا يتعدى الخمس عوائل فقط !!

بيوت مهجورة

وسط صخب الحياة من كل الجهات حولها وارتفاع وبهرجة واجهتها، تتصاعد درجات حرارة التوجس حين التقدم خطوات للدخول الى عوالمها، فهي منخفضة عن مستوى الشارع العام، فلا أزقّة كثيرة فيها ولا ناساً يعبرون منها ،بل إنها مخيفة في بعض أجزائها، وهناك بيوت قديمة جداً خلت من أهلها، وثمة كتابات غريبة على الأبواب والحيطان كأنها هلوسات ساحر اضطره الضجر الى هذه الشخابيط! وقد تحولت المحلة الى محال تجارية ومخازن على شكل بنايات عالية ما زال بعضها قيد الإنشاء،ولم أجد في أزقتها من أسأله غير رجل متقدم في السن، من قدامى أهل المحلة، غير متزوج، وهذا ما سهل بقاءه هنا، قال لي انه يعيش وحيدا في (خرابة)، وحينما سألته : (أين الناس؟) جاءني الجواب الصدمة : ليس فيها سوى خمس عائلات تسكن في خرائب البيوت القديمة، أتساءل عن الأسباب، تأتي الإجابات مقنعة الى حد كبير: التطور الحياتي جعل الناس تغادر المحلة القديمة، فهذه البيوت الخربة ما عادت تحتمل زيادة العدد في العوائل فباعوا واشتروا في اماكن اخرى، لكن الغريب انني وجدت فيها مدرستين كبيرتين مجددتين، الاولى : متوسطة الأبطال التي كان لها اسمان قديمان الاول (التفيض) قبل ان تتحول الى (الرشيد)، ويعود تاريخ وجودها الى عام 1910، والثانية: مدرسة 6 كانون الابتدائية المختلطة ويعود تاريخها الى عام 1956، وحين استغربت وجود المدرستين في محلة بلا ناس، قالوا: انهم يأتونها من المحلات القريبة والبعيدة.

رائحة الماضي

قبل الدخول الى العاقولية كنت أتغنى على طول الطريق بما قرأته من تفاصيل المحلة القديمة وهي غاطسة في أيام الخمسينات من القرن الماضي للكاتب أحمد محمّد أمين، وهو يشرح حياته في ذلك الزقاق، ربما هو ذات الزقاق الذي وقفت في منتصفه، يقول احمد: “ولهذا الزقاق من أزقة العاقولية رائحة لا مثيل لها في أيّ حيّ من أحياء بغداد في مبتدأ خمسينات القرن الماضي، فعلى جانبي الزقاق أبوابُ بيوت متراصّة، بابُ يُجاورُ باباً كما لو كانت الأبوابُ إخوة أو توائم..،خشبٌ قديم رطبٌ متآكلٌ لا يحمي ساكنيها من اللصوص لكنها تسترُهم من العيون الغريبة، والصبح نديٌّ مضبّبٌ قليلاً، يغشاه هدوءٌ غبشيّ، ما عدا هديل الحمائم وزقزقة العصافير فوق الأسلاك والأخشاب المغروسة في الأسيجة، وفي ثقوب الجدران المتآكلة..،الزقاقُ من مبتدئه حتى نهايته يغشاه لونٌ بنيّ كما لو كان مطلياً بالغبار الأصفر الغامق الذي يغزو بغداد والمدائن الواقعة جنوبها في مثل هذا الوقت من أيام السنة.”

موقعها في الجانب الشرقي من بغداد في منطقة الرصافة ، وهي الآن تقع بين شارعي الرشيد والكفاح وتحت محلة الحيدرخانة وفوق الشورجة،ضمن (حي الرشيد/ محلة 112)،اما حدودها ،كما وردت في اطلس بغداد لسنة 1952 فهي كما يأتي : (شمالاً قنبر علي وشرقاً إمام طه وجنوباً جديد حسن باشا وغرباً الحيدرخانة)، لكن هذه المحلة كانت توصف بالكبيرة وتعد من أشهر محلات بغداد.

لكن هذه المحلة الكبيرة تمزقت من غربها مع شق شارع الرشيد عام 1916، ومن ثم من شرقها مع شق شارع الكفاح عام 1936، ومن ثم جاء التمزيق الأكبر عام 1939 ،حين قررت امانة العاصمة هدم بعض المنازل من اجل شق طريق بين شارع الرشيد وشارع الملك غازي (الكفاح/ الجمهورية) اسمه (الأمين) واللوحة على ركنه (شارع رقم 18) حسب الترقيم الجديد ،ويمتد الى ساحة زبيدة، ومن الغريب ان البعض من الذين عاشوا في المحلة يقولون انهم يحفظون كل ركن وزاوية فيها ويشيرون الى البيوت والأزقة التي طالها الهدم.

أصل التسمية

اخذت المحلة اسمها من الجامع الشهير باسم “العاقولي” الذي بني سنة 728هـ / /1327م، وتبلغ مساحته نحو دونم واحد آنذاك ،وفيه ساحة رحبة ومصلى واسع وعلى شماله منارة مرتفعة وقد عمرّه محمد باشا أحد الأمراء / 1095 هـ / والوالي عمر باشا / 1177- 1186هـ / وكان هذا المسجد منزلاً للشيخ جمال الدين عبدالله بن محمد العاقولي الشافعي مدرس المستنصرية في بغداد.

درب الخبازين !

كان اسم المحلة يحمل صفة (درب) كما جرت العادة في ايام العباسيين، كان يسمى (درب الخبازين)، مجاور لدرب (فراشا) او الفراشة، وهو الاسم القديم الذي كان يطلق على جانب من محلة قنبر علي وتحت التكية، ويقول الدكتور عماد عبد السلام رؤوف : كانت تعرف في العصر العباسي بدرب الخبازين، وتعد عصر ذاك جزءاً من محلة سوق الثلاثاء التي تمتد طولاً من سوق الحيدرخانة الى ساحة مرجان اليوم، وعرضاً من شارع الرشيد الى نهر دجلة، وهي تتوسط حاليا محلات الحيدرخانة وقنبر علي وجديد حسن باشا والدشتي.

الملائكة كانوا هناك !

في حوار لي مع الكاتبة الراحلة إحسان الملائكة (1925-2010) ،شقيقة الشاعرة نازك الملائكة (1923- 2007) حدثتني عن سكنهم في هذه المحلة وبعض تفاصيل البيت الذي ضمهم بين جدرانه وتحت سقفه، والذي عاشت فيه العائلة لأكثر من قرن ونصف جيلاً بعد جيل في دار امتلكها الأجداد، الى أن غادروا المحلة عام 1930 الى الكرادة الشرقية.

شخصيات عاشت فيها

سكن المحلة العديد من الشخصيات التي كان لها أثر في الحياة الاجتماعية ،منهم السيد محمود شكري الآلوسي البغدادي ويقال له (شكري أفندي) أيضاً ـ : كان من أكابر علماء زمانه، وله تلامذة كثيرون، منهم: العلاّمة الشيخ بهجة البغدادي المعروف بـ (الأثري)،ومن أشهر مؤلفات الآلوسي: (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) الّذي قال فيه يصف (نهج البلاغة) ـ مع تعصّبه وتعنّته ـ : (هذا كتابُ نهج البلاغة قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبسٌ من نور الكلام الإلهي، وشمسٌ تضيءُ بفصاحة المنطق النبويّ)، وقد عاش هذا العالم حصوراً فلم يتزوج ،تقلد الآلوسي رتبة الإفتاء، ونال الرتب العلمية العالية، وهو لم يتجاوز الثلاثين ربيعاً إلا قليلاً، وفي تلك الفترة من حياة الآلوسي اشترى داراً فخمة (محلة العاقولية) كما جلب له الخدم والحاشية، على الأصول المتبعة في عصره، وخصص قسماً من داره الكبيرة للطلبة الغرباء يقدم لهم فيه الغداء والكتب والخدمات الأخرى مجاناً ومن جيبه الخاص فأمست داره مدرسة هو عميدها وبيته بنايتها كما أمست بغية لطلبة العلم من سائر أنحاء العراق والأقطار الإسلامية، وقد بلغت دروسه أربعة وعشرين درساً في اليوم وكانت داره العامرة مجمعاً علمياً وندوة للشعر .

ومن الشخصيات التي سكنت المحلة المصور الفوتوغرافي امري سليم (1928- 2008) الذي جاء من مدينة الموصل عام 1945، واستأجر احد البيوت في هذه المحلة، فبهرته شناشيل البيوت البغدادية والأزقة القديمة ما دفعه الى تصويرها وتوثيقها، وكان يتنقل بكاميراته في الشارع .