محمود شبَّر في: بغداد ترحب بكم

1٬035

احمد هاتف /

كنت أراه هناك.. في ذاك الفردوس المربع..واقفاً امام تمثال او قرب كاسة شاي .. وربما ضاحكا قرب مسند لوحة .. كان ابنا لشاكر نعمة التشكلي والنحات الحلي المعروف .. غير انه لايمتلك سمرة شاكر .. ولا أساه الطافح بعيونه .. كان مائلا الى الشقرة .. وسيما .. معتدا بنفسه كما مسلة حمورابي ” هذا هو طبع الحلي “..
كانت خطوط محمود شبٌر راعشة ، ضاحكة ، مستقيمة ، دافقه .. وكان شديد الشغف بهذي المدينة التي تحمل اسم بغداد .. بباراتها ونسائها وترف جدرانها ونارنجاتها ، وماتبقى من شجر الشبوي في طرقاتها .. لم تك تعنيه صرخة مبعد مثل موفق ابو خمرة ( اعطني الحل .. فلقد ارهقني هذا العَرقُ الدولي الفٌل ) ..لم تك تعنيه انحناءة عبد القادر العزاوي .. ولا يعنيه الألتباس بنصوص ” يوسف الصائغ ” كان فتى قرر ان يحيا مستقيما كنص رعوي لعيسى حسن الياسري .. لذا فتح باب ضحكاته ليمر دجلة الى روحه .. وامسك يد بغداد ليتزوج نافذة ظلت مكسورة في ذاكرته .. محمود شبر “وَلَد الحرب الاولى .. حرب السنوات القاهرة ” والمعاصر الصامت لأمهات المعارك التي لاتنتهي .. يطوي زمنه .. ويفارق بغداد مغتربا كما جاء اليها .. الغربات امهات سيئات السمعة دائما ، لذا مايلبث ان يجف حليبهن فيقذفنك الى رحمك .. لكن اي رحم ذاك الذي ستعود اليه وقد فقدت عفويتك وتراكم الثلج والغبار في صوتك ، ولم تعد تستطيع ان تقرأ النص الشعري دون ان يصرخ نهر على كتفيك .. وتتلوى عشبة في عيونك .. عاد محمود شبر .. بالوان اخرى لاتشبه طفولاتك .. ليقف امام ذاكرته .. لافته عريضة ” بغداد ترحب بكم ” ..ثمة مالايشبه الشمس هنا وهي تتمدد كقطة لم تجد الملاذ .. ثمة صفاء عتيق يشيخ .. ثمة سمرة لاتضحك .. ولون تركوازي مكسور .. ليست المدينة في المدينة .. لا احد هناك خلف الموعد سوى آخر أَجل موته قليلا .. لذا لم يعد النهار يتريث وهو يمر مترندحا قرب سميرة أميس .. ولم تعد شجرة الياس الى اقصى زاوية في جمعية التشكيليين .. انه الرماد والفايبر كلاس المزكوم برائحة حرائق مكثت طويلا في الضجيج ..
بغداد ترحب بكم .. لكن أي بغداد خلف اللافته ..!
بغداد اكنس بشير ، والاحمر الضاحك في قميص رافع الناصري .. والهدوء العابق بالرؤى في عيون محمد علي شاكر ، والصبح اليلاعب شال مخلد المختار الايطالي المورد .. ! ام بغداد الرصاص الكتب طويلا اعمار المضوا بالصدفة الى الغياب .. بغداد الحدائق التحولت الى مخازن للعُدد والأغذية المستوردة ..
ظل يجول هناك بحثا عن بقايا الظل الغارب على اللافته .. غير ان الغبار اثقل من ان تحمله رائحة الغروب المنهك على مفترق الدورة / السيدية .. لاظل في الظل .. ولا امرأة هناك يسار التمثال القابض على الوقت في مدخل معهد الفنون الجميلة..
اذن رجل رمادي يقف تحت ظل منهك ولافتة عجوز .. ربما ستهرب الصورة اليانعة من البوم الذاكرة .. ربما سيصحو التمثال متأخرا ليبحث عن الاصفر الضاحك في اللوحة الاولى على مسند الرسم .. انها لعبة الظل والضوء .. درس رامبرانت العتيق يامحمود .. لم تك تعتقد ان فان كوخ كان جاداً حين قطع اذنه .. لم تك تعتقد ان لوتريك كان حزينا حين رسم تلك الاجساد المثقلة في الحانات .. كنت تراه سوداويا فاشلا .. انها لعبة الضوء حين يشُح .. الامل حين يتعثر .. المد حين ينحسر .. المدن كما الحبيبات تشيخ ايضا .. يجف ماء الوجنات .. وتنفر العروق في اليد ، ويتجعد ماتحت العيون .. وتوهن الخطوات .. لكن النبض حي تحت خشب العمر .. مايزال في الماء ماء غير ان الشمس نكدة.. والغبار ولد الوقت العابث .. لكن السؤال هل بغداد ترحب بكم حقا؟ …..