مسرحي ينزف دما ويواصل التمثيل وشاعر يحرق قميصه على حطام (المتنبي)

568

عبدالزهرة زكي/

لم أكن في التسعينات، ولا في هذه السنوات، من الزوار المواظبين على تواجد دائم في شارع المتنبي. يصادف خلال هذه السنوات أن أكون هناك مرة في الشهرين أو الثلاثة لموعد مع صديق أو لحاجتي إلى كتاب أو كتب محددة، فيما كانت تمضي أشهر طويلة في التسعينات لا أمر خلالها في الشارع.
كنت أكتفي بما متوفر في مكتبتي وبما كان يصلني من كتب مهداة من أصدقاء خارج البلد ومن ناشرين عرب. ساعدني عملي الصحفي الثقافي على أن تصل إليَّ الكثير من الإصدارات الحديثة، ربما لا أقرأ منها إلا باختيارات تخضع لحاجتي وأحيانا لقيمة أتوقعها لكتاب أو لمؤلفه، فيما أهدي البقية لأصدقاء ومعارف هم أحوج مني إليها. في سفري الأول إلى دمشق في تلك السنوات توفرت على أكثر من أربعمائة كتاب هدية انتقيت معظمها بعناية شديدة. كانت هدية ثمينة من ناشرين دمشقيين مختلفين أعانتني وأعانت أصدقاء كثراً خلال التسعينات. كانت ظروف الحصار تفرض على الجميع أولويات في تنظيم النفقات، ولم تكن الكتب في ضوء المتاح لي من بين تلك الأولويات.
لم أذكر الكتاب الوحيد الذي اشتريته؟ نعم؛ إنه مجلدات (تاريخ الأمم والملوك) للطبري. لم أكن بحاجة ماسة له، لكن صديقاً كان يريد أن يهاجر وأن يتوفر على مبلغ السفر فباع مكتبته، اشتريت من الصديق تاريخ الطبري، وبعته بعد سفر الصديق بيومين بأقل من السعر الذي اشتريته به. لقد كانت لديّ نسخة منه منذ الثمانينات ورافقني شهوراً خلال أيام جنديتي التي كانت تسمح بقراءة هكذا كتاب، ثمّ بعته منتصف التسعينات حين اشتدت الضائقة وحين احتجت إلى ثمنه.
كان المجيء إلى المتنبي قد تضاعف مع التحول الجماعي للأدباء والكتاب والصحفيين من مقهى حسن عجمي إلى مقهى الشابندر. لكن زيارة الشابندر بقيت تقتصر على أيام جُمَع متباعدة فيما انتقل معظم أصدقائي من (حسن عجمي) إلى مقهى الجماهير القريبة من عملي في جريدة الجمهورية وبما أتاح لنا الالتقاء فيها يومياً تقريباً.
لم أتآلف مع (الشابندر) كثيراً خلال التسعينات، ربما كان هذا بفعل اعتيادي على مقهى الجماهير وعلى حفظ معظم أيام الجمع للعائلة أو لزيارات اجتماعية. لكن مقهى الشابندر التي وقفتُ وقاسم محمد عباس أمام حطام تفجيرها، وكان الدخان ما زال ينبعث من بين الحطام، بدت لي تماماً مثل ملك شخصي وقد أتت عليه كارثة، لا تستطيع أن لا تشعر بأن ثمة ما هو لك وها هو يتحطم أمام عينيك ولا تقوى على فعل شيء.
كان الشارع نفسه تجسيداً مفزعاً لصورٍ لا يتوقعها المرء إلا على أنها من نسج خيالات السينما والفن الروائي؛ أكداس من كتب ما زالت تحترق خارج وداخل مكتبات استحالت إلى هياكل مغطاة بالسخام، نتعثر في أثناء المسير الصامت ببقايا محروقات معدنية لرفوف وطاولات ومقاعد وكتل إسمنتية كبيرة تطايرت من المباني التي انهدّت فاستقرت على الشارع وفوق بقايا سيارات محطمة وعلى عربات خشبية محترقة مما كانت تستخدم في نقل أو عرض الكتب على الرصيف. كان الصمت يزيد من وحشة المكان، ليس سوى أفراد صامتين متفرقين لا صلة لأحد منهم بآخر سواه، يمضي كل منهم بين الحطام باحثاً عن أثرٍ ما.
لقد وصلنا المكانَ مبكّرَين..لاح لنا من بعيد مصورون ومراسلون كانوا يستثمرون الوقت المبكر من أجل تصوير مريح وإعداد تقاريرهم. عرفت من عماد محمد، مراسل قناة الحرة، أنهم حضروا لتغطية الجلسة الشعرية، سألني عن سبب عدم وجود قوة أمنية في المكان لتأمين حماية الجلسة ومَن سيحضرها، أوضحت له أن الاتفاق تم على أن تكون الجلسة تلقائية وبلا أي تحضيرات ومن دون إشراك أي طرف حكومي أو أمني سواء من العراقيين أو الأمريكان، يجب أن يكون وجودنا في الشارع مثلما هو الشارع حينما كان وحده بمواجهة الجريمة.
نبهني قاسم محمد عباس إلى وجود بقايا من كتب محترقة، كتب احترقت جوانب من صفحاتها فيما تبللت الجوانب السالمة بمياه خراطيم رجال الدفاع المدني الذين حضروا كما يبدو يوم أمس، لقد كنا نخوض في مستنقع من مياه ورماد.. لم يستطع أيٌّ منا، أنا وقاسم، تصفُّحَ أيِّ كتاب جريح ملقى على الأرض وفوق الحطام، مَن يجرؤ على تقليب الجراح؟
بعد دقائق بدأ الشارع يستقبل شعراءً وكتّاباً وفنانين وصحفيين وجمهورَ مثقفين.. كان الجميع يحتشدون ببعضهم، إنه شكل لا إرادي من احتماء الحياة بنفسها تحت التهديد. يتكاثر الحضور أمام مقهى الشابندر ومكتبة عدنان. يحضر رجل كان حينها مديراً عاما لدائرة الشؤون الثقافية، لم يكن الرجل معروفاً للوسط الثقافي، إنه من مسؤولي المحاصصة السياسية الطائفية. يعبّر المدير العام عن رغبته بإلقاء كلمة في الجلسة، فيواجَه بموقف واحد من دون اتفاق مسبق يقضي بالاعتذار منه ومن كلمته والترحيب به كأي فرد حاضر ولكن بلا أية صفة رسمية، لم يقبل إلا أن يخطب فلم نقبل فغادر، كما آتى، خلسةً.
بدأت الجلسة بتلقائية وبمبادرة غير مخطط لها من الفنان المسرحي جبار محيبس؛ لقد ارتجل مشهداً مسرحياً مدهشاً ونادراً، غطّى وجهه بصندوق خشبي من صناديق الكتب الشهيدة، وظل يتحرك فوق الحطام من دون أن يرى ما أمامه وما حواليه. كان النادر في هذا العرض هو ما شاءت مصادفة غريبة ومؤلمة أن تصنعه، فقد جُرحتْ كفّ جبار بالصندوق لحظةَ ابتدائه العرض وبدأ يسيل منها الدم غزيراً من دون أن يكترث الفنان الشجاع، فكان مشهداً حياً مؤثراً، ربما هي المرة الأولى في المسرح يمثل فيها فنان بدمه الحقيقي.
يقرأ الشعراء قصائدهم على حطام سيارة أمام المقهى فيتكثف الحضور. وعلى مرتفع من كتب محترقة يجلس الشاعر سلمان داود محمد فيحرق قميصه. وحين تختتم الفعالية بقراءة (بيان شعراء بغداد)، وكان موجهاً إلى شعراء العالم، تتناهى إلى أسماع الحضور أصوات انفجارات بعيدة تعكّر سلامَ وقوفِنا أمام رهبة الموت وحطام الحياة التي كانت هناك، في شارع المتنبي.