معاركُ زوجية في غرف مغلقة!!

751

كتابة: حسن العاني- رسوم: خضير الحميري /

حين نفترض حلول شتاء من غير قرصة برد، يمكن أن نفترض عندها قيام بيت لا يعرف المشكلات، وتلك من المعجزات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
واذا كان الأب والأم، هما القطبين المرشحين أكثر من غيرهما لقيادة النزاعات الأسرية، فذلك يعني أن معضلة لا أصعب ولا أعقد منها تواجه تربية النشء الجديد وتترك آثارها العميقة في سلوك وتصرفات الأطفال بصورة آنية ومستقبلية على حد سواء. ولعله من المفيد سلفاً أن نقف عند إشارة بليغة تعنى بها المباحث الاجتماعية والنفسية معاً، فهي تؤكد أن “الوراثة والبيئة” تتعاونان على بناء شخصية الإنسان وبغض النظر عن التفاصيل والآراء الكثيرة التي قيلت عن أولوية أحد العاملين في تكوين الشخصية، فالأمر الذي لا خلاف فيه هو أن كلاً منهما يحتل حيزاً واسعاً في رسم الصورة الكلية للإنسان.
أن ما يعنينا هنا أكثر من غيره، هو العامل البيئي الذي تبدأ تأثيراته منذ مراحل الطفولة المبكرة وتمتد الى مراحل متأخرة من سن المراهقة. ولو أخذنا بتعريف الدكتور عبد العزيز القوصي في كتابه القيّم (أسس الصحة النفسية) بأن البيئة هي جميع العوامل الخارجية التي تؤثر في الشخص من بدء نموه، فهذا يدل على أن عالم البيئة هو من الشمول والتنوع والسعة الى الحد الذي يصعب حصره أو اقتفاء أثره.
لاشك –على وفق التعريف المذكور- بأن التربية هي أحد عناصر البيئة إن لم تكن هي أهم العناصر من دون استثناء، على الرغم من أن مفهوم التربية نفسه واسع النطاق فهو تأثيرات البيئة والمدرسة والأصدقاء والمجتمع والمحلة.. وعلى هذا الأساس يمكن أن نتصور حجم ونوع التأثيرات الإيجابية أو السلبية التي تتركها علاقة الأبوين وتكوينة المنزل على البناء النفسي والعقلي وعلى عموم البناء التربوي للأبناء.

البيت حجر الأساس
لا يصح التقليل من شأن المحيط الخارجي في تكوين المفردات العامة لشخصية الطفل، لكن البيت يبقى، على رأي الدكتورة أحلام ياسين، هو حجر الأساس وخاصة في المراحل العمرية الأولى، وفي هذا المجال تشير الباحثة الاجتماعية ليلى إسماعيل الى أن التجارب المبكرة في حياة الطفل تبدأ مع هذا العالم الصغير، عالم المنزل الذي يؤلف الوالدان نواته الرئيسة وهذا يعني بأن مرحلة الطفولة ذات حساسية مفرطة.
العاملون في حقول الدراسة النفسية يولون مرحلة الطفولة، خاصة بين (5-10) سنوات، قدراً متميزاً من الاهتمام ويدعون الى ضرورة الانتباه الى هذه المرحلة التي تتشكل فيها ذاكرة الطفولة المبكرة ويشددون على الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه الأبوان، إذ ما زال الصغير عجينة طرية مطاوعة وقابلة لوضعها ضمن الصورة المطلوبة حتى قال بعضهم أن الرجل ما هو إلا صورة الطفل.
* من المعلوم أن أغلب البيوت تتعرض الى هذا النوع او ذاك من النزاعات العائلية، وعلى وجه التحديد بين الوالدين، ترى ما هي آثار ذلك على الأبناء؟
– في قناعتي، أن أشد تلك الآثار خطورة هو اهتزاز الصورة التي تترسب في ذاكرة الطفل، أي أن تجربته مع العالم الذي يتعرف عليه لأول مرة ستكون مريرة.
* كيف؟
– الخصومات بين الأبوين أياً كان مستواها، تعبر عن حالة غير طبيعية، أي أن كلاً منهما يتصرف بقدر من الانفعال المصحوب عادة بالغضب، بكل ما يقود إليه من ألفاظ ولغة “منفلتة” أو تصرف أحمق، وقد تصل بعض الشجارات إلى الشتائم والضرب وهذا قمة الخطورة، لأن الطفل يتزود بهذا النوع من العلاقة التي تمثل عالمه المعرفي الوحيد، وقد لا يجد ضيراً في تقليدها على صعيد المستقبل.
تقول الدكتورة أحلام ياسين: مع أن الشجار من أي مستوى او نوع يؤدي الى انهيار الصورة الجميلة التي “يفترض” تقديمها للأطفال، لكن الخطر لا يقف عند هذا الحد، ففي العادة يخرج الصغير بعد النزاع الأبوي وهو منحاز الى أحد الطرفين حقاً أو باطلاً، ومهما كان موقفه ومع أية جهة كان تعاطفه او انحيازه، فإن شرخاً كبيراً سيحدث في حياته، لأن أحد الأبوين “سيسقط في نظره” وسوف يترسخ قدر من العداء والعدوانية ضده، وأسوأ ما في هذا الموقف العدواني أنه كامن من أعماق النفس لا يظهر على السطح لكي تمكن تسويته أو علاجه.
يؤكد المشرف التربوي السيد محمد جاسم على أن الأسر التي تعاني من عدم الاستقرار بسبب الشجار والخصومات المستمرة بين الوالدين يكون أبناؤها على درجة من التدني الدراسي والضعف الواضح في مستوى تحصيلهم العلمي وقدرتهم على الاستيعاب، ويعلل ذلك بأن المشاحنات الأبوية تفقد الأبناء كثيراً من حاجتهم الى التوازن المطلوب ذهنياً ونفسياً وأعتقد بأن الخطأ الفادح الذي يرتكبه الوالدان يكمن في نظرتهما القاصرة الى أبنائهما.
* بأي معنى؟
– بمعنى أنهم مازالوا أطفالاً وأن الأمر لا يعنيهم، أي أن الشجار هو شأن من شؤون الكبار لا يدركه الصغار، وقد فاتهم بأن مثل هذه النظرة القاصرة تمثل سوء تقدير للطفل وعدم فهم شخصيته الحقيقية، فإذا كان غير معني بأمر المشاجرة فهذا لا يعني بأنه بعيد عن نتائجها وأسلوبها وانعكاساتها.
تروي السيدة رجاء هاشم (مدرسة لغة إنجليزية) أنها عبر تجربتها الطويلة في ميدان التدريس على مدى أكثر من عقدين قد لمست، بصورة واضحة، أن الطلبة الذين يعانون من متاعب عائلية سواء بسبب الخصومات والمشاجرات المستمرة بين الوالدين أم عدم انسجامهما، غالباً ما تظهر عليهم علامات الشرود وعدم التركيز في أثناء الدروس، وفي العادة يكون تأثير ذلك في الطالبات أكثر من الطلاب، أذكر أن إحدى طالباتي كانت شبه غائبة ذهنياً عن الصف وتعيش حالة خوف غير طبيعية، وحين انفردت بها واستمعت الى مشكلتها في محاولة لتقديم العون لها، لم تتوان عن البكاء، كانت خاضعة لأفكار سوداوية وصورة قاتمة عن المستقبل فيما لو حدث انفصال بين والديها، إنها لا تحتمل فكرة أن تعيش أمها مطلقة، والشيء الذي لفت انتباهي –تقول السيدة رجاء- هو أن الطالبة كانت تتحدث عن والدها كما لو كانت تتحدث عن رجل غريب يكرهها ويكره أمها.
ويذكر الدكتور سالم عبد الخالق حالة قريبة تخص أحد جيرانه وكان شاهداً عليها، لاحظ أنه بسبب الشجارات بين الزوجين عمد الأب إلى رسم صورة سلبية بشعة لزوجته أمام أبنائهما وكان يتقصد إهانتها بحضورهم، ومن المؤسف، كما يقول الدكتور عبد الخالق، أن الأولاد لم يتورعوا عن تقليد والدهم، فقد كانوا يتطاولون في الكلام على أمهم محتمين أو مشجعين بضحكات الأب أو سكوته، والغريب في ما يرويه الدكتور هو أن الأولاد ما إن بلغوا سن الشباب حتى راحوا يتطاولون على الأب نفسه من غير أن يقدر على ردعهم، لأنهم كانوا على استعداد لاستعمال أيديهم.. وهذا أمر متوقع بالطبع.

الأبواب المغلقة
هل ثمة حل؟
مرة أخرى استعير عبارة التربوي الأستاذ محمود العبيدي عندما نفترض حلول شتاء من غير قرصة برد يمكن عندها أن نفترض وجود بيت لا يعرف المشكلات.
* والحل؟
– هناك حلول كثيرة، لعل أهمها وفي المقدمة منها أن تعي الأسرة معنى مسؤولية الأبناء وكيفية تحمل هذه المسؤولية وإلا فمن الأفضل أن لا ينجبا (أعني الأبوين) أطفالاً بالمرة.
* ألا يبدو مثل هذا الحل شبه مستحيل؟
– بل هو الحل المثالي.. بمعنى أن الطفل مسؤولية وأن على الوالدين إدراك هذه الحقيقة التي هي من ألف باء أية عائلة.. أو من ألف باء أية تربية.
– هناك حقيقة، يواصل السيد العبيدي حديثه، هي أن أية عائلة بدون استثناء ومهما كان مستواها الثقافي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، تحرص على تربية أبنائها حرصاً شديداً، وتتمنى أن يكونوا على أفضل صورة، فالجميع يدرك بأنه مسؤول، ولكن المشكلة تكمن في “جهل” أغلب العوائل لوسائل التربية الصحيحة، ومنها تجنب الصدام أو الشجار أمامهم.
الدكتورة سميرة فاضل تؤكد على أهمية انتباه الوالدين الى ضرورة أن يكون أي شجار بمنأى عن الصغار، وإذا اقتضى الموقف او دعت الضرورة في لحظة غضب أو انفجار، فعلى أولياء الأمور أن يتحكموا بأعصابهم ويحولوا لغة الشجار العنيفة الى لغة عتاب أو حوار حتى لو كان حواراً متشنجاً، ولكنه لا يتضمن مفردات نابية، لأن مثل هذه المفردات تنهي صورة الوالدين الجميلة التي يعتقد الأولاد بأنها “أعظم” صورة في الكون.
وتخطو الباحثة الاجتماعية ليلى إسماعيل خطوة عملية أوسع وهي تشير الى أن الدراسات النفسية الحديثة والمباحث الخاصة بتربية النشء تؤكد جميعها على أن الشجارات بين الوالدين كونها واقعاً يصعب إنكاره مثلما يصعب تجنبه، لذلك فإن النصيحة الذهبية التي تقدم للأم والأب على حد سواء هي أن تكون نزاعاتهما في مكان بعيد عن مرأى ومسمع الأولاد، كأن يدخلا غرفة نومهما ويعمدان الى غلق الباب عليهما بصورة محكمة.
* هل يبدو مثل هذا التصرف مقبولاً او منطقياً؟
– نعم هو مقبول جداً ومنطقي الى حد بعيد مادام العمل به يتم باتفاق مسبق بين الطرفين.
* كيف؟
– من المعروف أن لكل أسرة نمطاً خاصاً من العادات والتقاليد والأعراف التي تصبح مثل “القانون”، فأوقات الطعام والنوم والاستيقاظ والزيارات والسفرات الترفيهية، جميعها مع الأيام تخضع لنظام أو عرف أو تقليد، حالها في ذلك حال أية قضية منزلية يتم الاتفاق عليها بين الوالدين أو يفرضها الاعتياد كالإنفاق أو التبضع أو الممنوع أو المسموح.. الخ
أعتذر سلفاً إذا سألت: هل تمارسين مثل هذا الأسلوب في المنزل مع الأولاد؟
– لا يحرجني مثل هذا السؤال أبداً.. وبأمانة عالية أقول لك: تحصل بين الحين والحين الآخر شجارات منزلية بيني وبين زوجي فنعمد إلى حلها خارج البيت، نذهب في جولة حرة أو إلى مطعم، وفي بعض المرات نرجع الى المنزل من دون أن نتوصل الى حل، أي تبقى المشكلة قائمة ونبقى متخاصمين الى حد أن أحداً لا يكلم الآخر، ولكننا لا نجعل أولادنا يشعرون بذلك أبداً، ففي حضورهم نتصرف وكأن كل شيء بيننا طبيعي.. أحدثه ويحدثني ونتعاون على “تمشية” أمور البيت وحاجيات الأبناء بالصورة التي اعتادوا عليها وألفوها بصورة يومية.
فكرة تربوية جميلة.. وأجمل ما فيها أنها بسيطة.. فلماذا لا ندع الأولاد بعيداً ونتشاجر وراء الأبواب المقفلة؟