مع كل هذا الضد

731

#خليك_بالبيت

مقداد عبد الرضا/

الثائر ريجيس دوبريه أنجز كتابا أطلق عليه اسم (حياة الصورة وموتها), ليست حركة الصورة والكلمة من الطبيعة نفسها، ووجهتهما ليست هي نفسها, الكلمات تقذف بنا نحو الأمام, بينما ترمي بنا الصورة إلى الخلف, وهذا التراجع في زمن الإنسان يعدّ مسرّعا ومحركا للقوة, المكتوب نقدي، أما الصورة فنرجسية, ومهمة أحدهما الإيقاظ، فيما تكمن مهمة الآخر في التنويم التدريجي, الكلمة توقف والصورة تمدد, أجمل الصور نراها ونحن نستغرق بهدوء في مقاعدنا، وذلك الذي يعدّ “المنتهى” لهواة السينما.
انفرط عقد أحد أهم البيانات في تاريخ سينما العالم الذي تأسس في العام 1995 تحت عنوان (دوكما 95), وكان الهدف منه الخروج عن المألوف والسائد، ولما تتعرض له السينما من هبوط ودلال شباك التذاكر, تألف البيان من شروط عدة سُميت (نذر العفّة) اضطلع بصياغته أربعة مخرجين هم: لارس فون تيرير, وتوماس فينتبرغ, وكرستيان ليفرنج, وسورين كرا ياكوبسن, النذر قُصد به أن يكون موقع التصوير خالياً من الديكورات وبعيداً عن الاستديوهات, ويمنع فيه تسجيل الصوت، أي أن يكون الصوت من ضمن التصوير وبعيدا عن الاستديو, ولا توجد إضاءة والطبيعة هي المصدر الوحيد, ويمنع العنف والمشاهد غير الواقعية, ويمنع وضع الأفلام تحت أي تصنيف, مثل أكشن أو كوميدي أو دراما, الفيلم الملون هو الوحيد الذي يستعمل للتصوير, وليست هناك أشرطة غير أشرطة 35 ملم, ويشترط عدم ذكر اسم المخرج على شريط الأسماء, لقد أنجز هؤلاء الأربعة بعض الأفلام لكنها بقيت بين مد وجزر, بين رفض وقبول, الفيلم الوحيد الذي نال الإعجاب الكبير والحفاوة هو (رقص في الظلام) للمخرج لاس فون ترير, وانفرط العقد وعاد كل من هؤلاء الأربعة إلى حظيرة السينما التقليدية وراح كل واحد منهم ينجز ما يراه مناسبا له ضمن تلك الحظيرة, ثم جاء لاس فون تيرير وقدم لنا فيلم (ضد المسيح) والذي هو موضوعنا هذا.
فلم (دم وجنس واحتجاج وألم وقسوة) هو الذي أنجزه الدنماركي لارس فون ترير وعرضه في مهرجان كان, وقد توقع المخرج إحدى جوائز المهرجان, لكن توقعه جاء على العكس, فلقد انقسم النقاد بين مؤيد ومعارض, وانتهى الأمر بعدم حصول المخرج على أية جائزة, بداية هذا الفلم عادت بي إلى سبعينيات القرن المنصرم حينما أنجز المخرج نيكولاس روج فلمه (لا تنظر الآن) إذ تكاد هذه البداية تتطابق مع تلك البداية, فلم روج يبدأ بزوج وزوجة يمارسان الحب بنشوة عارمة, وهناك في الخارج حيث الغابة طفل يلهو بكرة, تتدحرج الكرة لتسقط في البركة, يلاحقها الطفل ويقذف نفسه خلفها لكن البركة تبتلعه, تبدأ أحزان الأبوين في رحلة قاسية للبحث عن سحرة لاستدعاء روح الطفل, هنا أيضا في فلم ترير, الأم والأب يمارسان الحب برغبة كبيرة، وحتى يؤكد المخرج الرغبات المتأججة، فقد نفذها بطريقة الـ(سلوموشن) والأبيض والأسود, طفلهما في سريره, ينفتح الشباك نتيجة الريح, ينزل الطفل من السرير, يتجه إلى الشباك ليسقط من علو ويموت, حزن قاتل ينتاب الأم, يحاول الأب التخفيف من الألم لكنه لا يقدر, تحلم الأم بأن الخلاص هو الذهاب إلى غابة عدن, وفعلاً يتم لها ذلك, إذ ترتحل مع الزوج الذي يحاول كطبيب نفسي أن يخرجها من حزنها, لكن لا خلاص, الكوخ الذي سكناه كل ما فيه موحش ويذكّر بالموت على الرغم من وجود الغابة, الهرب من الموت والإقبال على الحياة بواسطة الحب والجنس, لا خلاص أيضا, إنها بانتظار الزوار الثلاثة, تنهال الزوجة على فحولة زوجها فيتدفق الدم, وتنهال هي أيضا على مصدر متعتها وتقطعه للتكفير عن موت الابن, وفي لحظة ألم وانفعال تثقب الزوجة ساق زوجها بمثقب وتضع قطعة حديد فيها وكأنها تعلن لنا أن لعنة سيزيف قد حلت مرة أخرى, يتجه الزوج إلى حفرة في الغابة في محاولة للخلاص, لكنه يفاجأ بذئبة تضع مولودها, تنظر إليه وبصوت بشري تصرخ في وجهه, إن العالم يعمّه الخراب, تستدل الزوجة على زوجها بعد أن تستفيق من صدمتها بواسطة الغراب الذي يقودها إلى مكانه, تحاول أن تشفيه وترفع عنه الثقل الذي ينوء به, لكن لا خلاص أيضا, يُحرق الزوج زوجته التي تحولت إلى لعنة. تتقدم نساء كثيرات ويلتحمن مع الزوجة ليصبح الجميع جزءا من الغابة, إن العالم يسوده الخراب وحلت به اللعنة, حينما وقف المخرج فوق منصة “كان” وأعلن أنه أعظم مخرج في العالم, ذكرنا هذا الإعلان بالحوار الذي أجرته خيرية البشلاوي في مجلة السينما المصرية بداية سبعينيات القرن المنصرم مع المخرج الأرميني سرجييه باردجاوف حينما أعلن أنه اعظم مخرج في العالم, وكان إنجاز باردجانوف يؤهله لذلك، فهل الأمر عينه لترير؟ أهدى ترير فلمه (ضد المسيح) إلى شاعر السينما المخرج أندريه تاركوفسكي, لكننا نتساءل, هل سيقبل تاركوفسكي كل هذا الدم الذي تدفق من خلال جسدين فقط هما بطلا الفلم؟ أشك, الفلم من بطولة وليم دافو وشارلوت غيسنبرك التي نالت عن أدائها في هذا الفلم جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان وهي تستحق. ذلك بجدارة.