مقام الوداع لـ صالح علماني

754

أحمد هاتف /

تقول آذر نفيسي: “كل عمل أدبي عظيم هو احتفالية بحد ذاته، وهو فعل للعصيان والتمرد على الخيانة والرعب والكفر الذي يملأ الحياة. حتى نجد أن كمال الشكل وجماليته يتمردان على قبح ورداءة الموضوع …
ذات يوم من بداية الثمانينات.. ساقتني الصدفة إلى مكتبة الأورفلي التي كان يديرها الشاب علي حسين.. لم أك أعرف علي يومها.. التقطت رواية بالمصادفة ودفعت ثمنها وخرجت… عدت إلى القسم الداخلي وشرعت بقراءة ذاك الطلسم الساحر “مائة عام من العزلة” لغابرييل غارثيا ماركيز.. كانت يومها فتحاً مدهشاً لأفق جديد.. وتقنية سردية غير مألوفة… اتجهت بعد يومين إلى أستاذي في اللغة الإنكليزية المترجم والأب سعيد أحمد الحكيم.. وسلمته الرواية ودعوته للوقوف على أسرارها.. قال يومها إنه لايعرف الكاتب.. وعاد بعد أيام ليخبرني أن ثمة طبعة بترجمة صالح علماني أكثر دقة.. هذه هي المرة الأولى التي يلامس سمعي اسم صالح علماني.. عدت إلى المكتبة وسألت علي حسين فأثنى كثيراً على صالح علماني وساعدني في الحصول على “مئة عام العزلة” مترجمة عن الإسبانية.. كان الفرق شاسعاً بين الترجمتين… عدت لأبحث عن الكاتب والمترجم فوجدت العديد من الأعمال كانت رواية اليخو كاربنتييه “مملكة هذا العالم” أحد تلك الكنوز.. و “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”… وسيدي الرئيس العظيم ميغيل إنخل استورياس”.. التي تبعها صالح علماني بترجمة رائعة أخرى لاستورياس “الهاخاديتو”، وهي من وجهة نظري أعظم أعمال استورياس ومن كبريات الترجمات للغتها المعقدة وسرديتها الجديدة.. حقاً لقد أذهلني صالح علماني هنا تحديداً.. وسجل هدفاً كبيراً في وعيي.. لذا كنت أبحث عن كل ماينتقيه وألاحقة وأقرأ أعماله.. فحين يضع صالح علماني يده على رواية أيقن أنها متميزه.. هكذا تعرفت على بورخس وإيزابيل الليندي وآرنستو ساباتو وكارلوس فوينتس وخوان رولفو وجوزيه ساماراغو وماريو فرغاس ليوسا.
ولا أنسى جهود الدكتور الصديق عيسى مخلوف الذي أسهم بقوة في هذا المجال….
مذ سنواتي المبكرة وجدت في صالح علماني مؤلفاً آخر لكل كتاب بتشاركه معنا.. بنبرتة الدقيقة وفهمه وانسيابيته ومعجمه الواسع وقوة إدراكه وخياله الفذ ونكهة الكاتب التي يحملها إليك وكأنك تقرأ خامة صوته…
في الهاخاديتو مثلاً يجنح استورياس إلى دمج العناصر بين الحياة والحياة الأخرى، يضعك بين عالمين: عالم الآخرة وعالم الدنيا ويفجر عاصفة ليخلط بها الشعري والسردي والفلسفي والتأملي والفنتازي.. إنه أحد أغرب عوالم الرواية على الإطلاق.. وربما يتساءل بعضكم لماذا لم نسمع بتلك الرواية، والجواب لأنها نخبوية جداً ولأن الشاعر والروائي استورياس يخلط عادة بين التاريخ المجنون لغواتيمالا وسحر الواقعية السحرية… لذا لم تجد تلك الرواية صدى كما وجدت “سيدي الرئيس” التي تعد إضافة إلى “خريف البطريرك” من أهم الأبحاث في عالم أمريكا اللاتينية السياسي.
اليوم رحل صالح علماني، ذاك الذي أثرى الذاكرة العربية بروائع أدب أمريكا اللاتينية المدهش.. رحل من أسمعنا صوت “بابلو نيرودا.. وروفائيل ألبرتي.. و غابربيلا امستيرال.. وجوزية ساراموغو وبينديتي.. وغاليانو”.
رحل الذي فتح عيوننا على حكايات غابرييل ماركيز وأعظم روائعه “عشت لأروي”، التي وثقت بعظمة كاتبها أهم تجارب الأدب اللاتيني.. رحل من دلنا على “الفردوس في الضفة الأخرى”.. والحق أن ألماً جارفاً سيجتاح اللغة بعد هذا المثير للذهول.. ألم سيظل في مكانه الشاغر الذي لم يجد من يشغله.. فقد تغوّل صالح علماني في معرفته بأسرار الإسبانية ولهجاتها المعقدة بدءاً من القشتالية المتعالية وصولاً إلى إسبانية البيروفيين..
رحل تاركا بين أيدينا “حكايات الغانيات الحزينات.. وحكاية آرنديرا الطيبة وجدتها الشيطانية.. وبيت ألفيرا ساماديو الكبير.. وكل حكايات بلاد الأنديز الحزينة”.
رحل تاركاً إرث ريبيرو العظيم وغاليانو المجنون.. وفوينتس العظيم.. وساباتو الذي لم يعد يرى العالم لكنه ظل مدركاً لأسراره.
وداعا أيها المعلم العظيم… وداعاً صالح علماني.