من جنّة الأرض: طاق كسرى يستغيث!
عامر جليل إبراهيم- ميساء فاضل – تصوير: حسين طالب /
لَيسَ يُدرَى: أصُنْعُ إنْسٍ لجنٍّ سَكَنوهُ أمْ صُنعُ جنٍّ لإنْسِ
بهذا البيت الشعري البليغ وصف الشاعر العباسي البحتري طاق (إيوان) كسرى معبراً عن دهشته حين رآه أول مرة. هذا الأثر الذي كان من عجائب الدنيا القديمة، وما يزال من عجائب الهندسة المعمارية لأنه أكبر بناء عال بسقف قوسي دون أعمدة ساندة له.
هذا الأثر الذي ورد ذكره في السيَر النبوية الشريفة التي تقول إنه “بمولده (مولد المصطفى عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام) انشق إيوان كسرى” ما يزال شاخصاً في مدينة المدائن (35 كلم جنوب بغداد) التي يسميها العراقيون (سلمان باك) استناداً إلى الصحابي الجليل (سلمان الفارسي المحمدي) المدفون فيها، لكنه بحاجة إلى اهتمام عاجل ولاسيما أن هناك أخباراً غير موثقة تتردد في مواقع التواصل الاجتماعي تقول إنه أصبح آيلاً إلى السقوط.
تاريخياً، فإن طاق كسرى، كما تقول إحدى الروايات، من أهم الآثار المتبقية من أحد قصور (سابور ذو الأكتاف) الذي أمر ببنائه حين كانت المدائن (طيسفون) عاصمته الصيفية، واستمر البناء 20 سنة وانتهى بعد موته، وكان في الأساس قاعة استقبال الملك لضيوفه، التي تؤدي الى قاعة العرش، وحتى الآن تحتفظ جدران الأثر المبني من الآجر بالصور المذهلة المحفورة عليها والبناء كله يوحي بالفخامة والأبهة مع أول مشاهدة له عن بعد.
المدائن
سلوقيا، طيسفون، المدائن، وأخيراً سلمان باك، كلها أسماء لشبه جزيرة يحتضنها نهر دجلة من ثلاث جهات، علاوة على تاريخها العريق، أُسست قبل 2500 سنة ، قام ببنائها سلوقس الأول نيكتار، أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر، إذ اقتسموا إمبراطوريته بعد وفاته، الذي كان من نصيبه الجزء الشرقي من هذه الإمبراطورية الممتدة من سوريا في الشرق إلى الهند في الغرب، ونسبت إليه المدينة فأطلق عليها سلوقيا، ثم جاءت الإمبراطورية الفرثية التي احتلت العراق ومناطق أخرى عام 141 قبل الميلاد، وبنت عاصمتها في نفس المنطقة قرب سلوقيا وسميت باسم طيسفون، ثم كان الغزو الساساني أو الإمبراطورية الفارسية الثانية عام 224م، التي اتخذت من طيسفون أيضاً عاصمة لها، واستمرت لما يزيد على أربعة قرون قبل أن تشهد المدينة أحد أهم أحداث التاريخ ، وهو الفتح الإسلامي للمدينة، حيث كانت آخر قلاع الإمبراطورية الساسانية التي سقطت بعد معركة القادسية عام 637م، وتم تغيير اسمها، فسميت بالعربية (المدائن)، ويقال أن سبب هذه التسمية هو أن المدينة تتكون من عدة مدن صغيرة.
يقع القضاء جنوب العاصمة بغداد ويقسم إلى ثلاث نواحٍ هي: النهروان وناحية الوحدة وجسر ديالى.
يطلق أهالي القضاء اسم جنة الأرض على المدائن تحبباً وتغنياً بجمال هذا المكان.
(طاق كسرى)، ذلك البناء المقوس الموغل في القدم يحكي قصة جبروت صانعيه, أقامه كسرى ليصبح فيما بعد مقراً للأكاسرة، كانوا يطلقون عليه اسم (القصر الأبيض) وكانوا يديرون من بين أروقته حكم ثالث امبراطورية في العالم القديم, لم يبق منه سوى هذا الطاق.
بالرغم من كل تاريخه وعمارته الفريدة وما يحمله من رموز، إلا أنه أصبح مكاناً مهملاً بعد أن كان وجهة سياحية مهمة سواء للعراقيين أو للمجاميع السياحية الأجنبية، وكان قربه مجمع سياحي (خمسة نجوم) على شاطئ دجلة مباشرة يضم فنادق ومسابح ومطاعم وملاعب أطفال، وهناك بعض أعمال لترميمة وكأنها تجري على استحياء!
“مجلة الشبكة العراقية” زارت هذا الموقع الأثري السياحي المهم بمرافقة الباحث الآثاري (علي مهدي سلمان) الذي حدثنا قائلاً:
يعد إيوان كسرى من أبرز الشواهد المعمارية الأثرية في العراق القديم، كما تعد المدائن من المدن المهمة في حضارة بلاد الرافدين، وقد أطلق عليها العرب منذ القدم اسم المدائن لأنها تحتوي على سبع مدن يذكرها ياقوت الحموي فيقول: “سمتها العرب المدائن لأنها سبع مدائن بين كل مدينة وأخرى مسافة قريبة او بعيدة.”
التسمية
لإيوان المدائن تسميات عدة، إذ يعرف عند العامة باسم (طاق المدائن) نسبة الى المدينة، او (طاق كسرى) نسبة الى من بناه، وكلمة (إيوان) هي كلمة فارسية الأصل استعارتها اللغة العربية ولها معانٍ عدة منها ما يعني البيت المسقف غير مسدود الواجة.
تاريخ الإيوان
يمضي سلمان بالقول:ـ الإيوان هو جزء من بناية كبيرة تعرف بالقصر الأبيض يتجه نحو الشرق، ينسب بناؤه الى الملك الساساني كسرى أنو شيروان (531-579م) لاعتقاد بعض الباحثين باحتوائه على عناصر معمارية تشبه تلك التي سادت خلال القرن السادس، وهناك بعض الباحثين يعتقد بأن تاريخ هذا البناء قد تم تشييده إما في عهد الملك أردشير او ابنه الملك سابور الأول (240-272م) مستندين بذلك إلى بعض الإشارات التاريخية التي وردت في المصادر المكتوبة، وبشكل عام ربما تنحصر مدة زمن بنائه ما بين نهاية العصر الفرثي الى بداية العصر الساساني.
التخطيط والوظيفة
كان القصر الأبيض مبنى ذا وظيفة سياسية، فهو مقر للحكم ومكان للاستقبال وإقامة الولائم، لذلك امتلك ميزة الضخامة والعظمة التي كانت طاغية عليه، وفيما يخص الإيوان الذي كان يغطي ساحة العرش في القصر، فهو يعتبر أكبر إيوان أثري لحد الآن، وبسبب بروزه الشائع والصفة الغالبة في القصر الأبيض طغى بشهرته على جميع الأواوين المكتشفة لحد الآن، ويعد الإيوان من أهم أجزاء هذا القصر الذي تعددت أجزاؤه . يبلغ ارتفاع الإيوان 35 م أما عرض فتحته فتبلغ 25م وامتداده الطولي حوالي 50م بنيت أسسه من الآجر والجص ورصفت بشكل عمودي، وقد عمل المعمار العراقي على بنائه بشكل متين وقوي، الأمر الذي زاد من سمك جدران القصر لتستطيع حمل سقف الإيوان الذي كان بسمك يبدأ من 4م الى 1م في الأعلى.
تطل واجهة الإيوان على الشرق، وله ثلاثة أبواب واحد من اليمين والآخر من اليسار والثالث قرب الجدار الغربي، والى يسار الإيوان هناك جدار يعلو حتى قمة الإيوان، ويحتوي الجدار الخلفي للإيوان مدخلاً يقع على محوره الطولي يفضي الى سلسلة من الغرف الصغيرة المتصلة ببعضها عبر فتحات الأبواب ومنها قاعة واسعة مغلقة بعرض الإيوان، كما توجد غرفة على كل جانب من جانبي الإيوان أصغر من القاعة المغلقة، ويعتقد من خلال المصادر أن جدران الإيوان الداخلية كانت تحتوي على بعض المشاهد الحربية نفذت بالفسيفساء توضح حصار كسرى لمدينة (أنطاكيا)، كما كانت هنا بعض الأجزاء الأخرى من جدران الإيوان مكسوة بزخارف ملونة، وكانت الأرضيات بألواح من المرمر السميك، ثم غطيت بسجاد الحرير عليها مناظر أشجار وحدائق، ويقال إن كسرى عندما كان يستعد لاستقبال المدعوين كان يجلس على وسادة ذهبية وضعت فوق العرش في نهاية الإيوان ويظهر مرتدياً ملابس مزخرفة ذات نسيج ذهبي وفوق رأسه تاج عظيم مصنوع من الذهب والفضة مطعم باللؤلؤ والأحجار الكريمة، ويقال أيضاً إن وزنه كان عظيماً يقدر بنحو 90 كغم، لذلك فإنه كان يعلق بالسقف بسلاسل طويلة من الذهب .
مراحل الصيانة والأضرار
يقول سلمان : حتى عام 1887 كان الإيوان مكتملاً، يتكون من قوس كبير تحصره من الشمال والجنوب واجهتان كل واجهة عبارة عن حقول زخرفية عمارية قوامها أعمدة وأقواس، لكن بعد سنة 1887 بسبب الفيضانات في حينها انهارت الواجهة الشمالية وبقيت الجهة الجنوبية فقط، وقد تضرر المبنى كذلك عام 1915 بسبب معركة (طيسفون) التي حدثت بين القوات التركية والبريطانية، فضلاً عن الظروف الطبيعية التي أدت الى العديد من الأضرار على المبنى، وقد جرى على المبنى العديد من أعمال الصيانة في أوقات زمنية مختلفة أولها كان في عام 1924 حين تم تدعيم أسافل جدران المبنى بصفوف من الوحدات الكونكريتية، وفي عام 1928 عملت بعثة ألمانية في الموقع تناولت الأجزاء الجنوبية والغربية من الموقع. في سنة 1941 شيدت دعامات ساندة للمبنى من قبل وزارة العمل آنذاك، لكن بمرور الزمن أصبحت هذه الدعامات تشكل ضرراً على الواجهة الجنوبية للمبنى، لذا فقد قامت دراسات من قبل استشاريين لغرض تقوية جميع أجزاء المبنى، نذكر منها الدراسة المقدمة من قبل المهندسين الاستشاريين الإيطاليين الذين اقترحوا تشبيك داخل الواجهة المذكورة بشبكة من قضبان الحديد ومادة الإسمنت، ثم إن هذه الشبكة ترتبط بشبكة ذات قضبان أسمك مثبتة بأسس هذه الواجهة. بين عامي 1970-1971 باشرت مديرية الآثار العامة (حالياً الهيئة العامة للآثار والتراث) بمراحل عدة للصيانة والتنقيب وتطوير موقع المدائن بشكل عام، منها بناء متحف المدائن وكان برئاسة الآثاري (طارق عبد الوهاب مظلوم)، وخلال السبعينيات كان هناك تواصل بين الجانبين العراقي والإيطالي، إذ قدم الجانب الإيطالي عدداً من المقترحات لحفظ المبنى من خلال عمل سقالة حديدية أقيمت حول الإيوان دون المساس به تحت قيادة المهندس الإيطالي (كارديلا) الذي قام بصيانة وحماية القوس، وقد تم استخدام لواصق مناسبة جديدة ساعدت في تماسك أجزاء القوس وتدعيمه، بعد ذلك قام الجانب الإيطالي بوضع خطة لإنقاذ وإعادة بناء الأجزاء المنهارة من هذا القوس، كذلك أجريت أعمال صيانة عليه من قبل شركة (إيفرس) الجيكية ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية لسنة 2013.
والآن
طاق كسرى يستغيث، ولابد من اتخاذ إجراءات سريعة للمحافظة على الطاق لأهميته التاريخية والسياحية وإعادة إعمار المجمّع السياحي.
نكرر قولنا إن السياحة وارد مالي مهم وفير يساهم في دعم وتعزيز الوضع الاقتصادي.