من لعبة المحيبس في العراق إلى الطبّالين في تركيا.. ولرمضان طقوسه المبهجة

471

ترجمة: آلاء فائق/

شهر رمضان الفضيل أكبر بكثير من مجرد فترة صيام، فهو شهر مقدس متجذر في الثقافة والإيمان والتاريخ. في جميع أنحاء العالم، يستقبل المسلمون هذا الشهر باحتفالات بهيجة نابضة بالخشوع، تنفرد بها شعوب العالم، كل حسب منطقته وبلده وتنتقل عبر الأجيال.
الصيام، هو أحد أركان الإسلام الخمسة، فواجب على جميع المسلمين الأصحاء صيام الشهر وقيامه. فضلاً عن الصيام، يتحلى الشهرالكريم بأركان مشتركة، كالصلاة والصدقة، ناهيك عن الممارسات التي تختلف من ثقافة إلى أخرى، بدءاً من لعبة المحيبس في العراق، مروراً بطقوس الاستحمام في إندونيسيا، إلى الفوانيس المضيئة في مصر.
لعبة المحيبس في العراق
المحيبس لعبة شعبية تراثية تلعب في شهر رمضان تحديداً، وهي لعبة عراقية مشهورة جداً في العراق تعتمد على الفراسة. كلمة محيبس هي تصغير لكلمة محبس، التي تعني الخاتم، وهو الخاتم الذي يتم البحث عنه خلال اللعبة، ولهذه اللعبة اسم آخر هو الـ (بات). يأتي معنى كلمة (بات) من مبيت المحبس في أيدي الفريق الذي لم يستطع الفريق الآخر استرجاعه من أيديهم، واللعبة تعتمد -بشكل عام- على دراسة نفسية سريعة للفريق حامل المحبس، تحديداً لدى الرجل الذي يحاول اكتشاف مكانه، الذي يدعى بالعامية العراقية (الطاير)، والدراسة تعتمد على مدى قابلية الطايرعلى اكتشاف بعض أعراض الخوف والقلق التي تظهر على حامل المحبس، والخوف نابع من أن اكتشاف المحبس في يد حامله قد تسبب خسارة فريقه.
أصول اللعبة
رغم أن الأصول الدقيقة للعبة غير معروفة، إلا أنها تتمتع بقيمتين، ثقافية وتاريخية، عميقتين. ويرجع البعض أصولها إلى العهد العباسي، حين فقد خاتم الخلافة في إحدى جلسات الخليفة مع ندمائه خلال أيام رمضان، وبعد صلاة التراويح، وبقصد ممازحته، أخفى أحدهم الخاتم في يديه، وشاركه باقي الأصدقاء نفس الحركة، حتى طلب الخليفة من أحد أصحابه أن يحاول معرفة مكان الخاتم، ووعده تكريمه إن وجده.
اللعبة تعتمد على الفراسة
في الساعات الأول من الليل، بعد الإفطار تحديداً، يجتمع عدد من الرجال من جميع مناطق العراق لغرض المشاركة في هذه اللعبة التراثية، التي يمارسها الرجال تحديداً خلال شهر رمضان، وتشكل مجموعتان من نحو 40 إلى 250 لاعباً من كل مجموعة، يتناوبون في إخفاء المحبس. تبدأ لعبة المحيبس بقائد الفريق ماسكاً المحبس ويداه مغطاتان ببطانية، فيما يجب أن يجلس الأعضاء الآخرون وقبضات أيديهم محكمة في أحضانهم، حيث يقوم القائد بتمرير المحبس إلى أحد اللاعبين الآخرين سراً، وفي تبادل متوتر، يجب على خصومهم تحديد واحد من العشرات من الرجال قد أخفي الخاتم عنده من خلال لغة الجسد وحدها. تتمتع اللعبة بقيمتين، ثقافية وتاريخية، عميقتين. قبل عقود، كانت الحكومة العراقية تنظم ألعاباً عدة، من بينها هذه اللعبة التي يشارك فيها رجال من مختلف أفراد المجتمع، وتستضيف مئات المشاركين إذ يتجمع السكان المحليون من جميع أنحاء البلاد. وعلى الرغم من أن هذه الممارسة التي ترعاها الدولة قد توقفت في فترات الحروب التي مر بها العراق، وكان يخشى من ضياعها، إلا أنها ما لبثت أن عادت في السنوات الأخيرة، إذ يواصل أفراد المجتمع المحليون ممارسة هذا التقليد الرمضاني الجميل. يتحمل الفريق الخاسردفع كلفة صواني الحلويات التي توزع على الفريقين والمشاهدين، وعادةً ما ترافق اللعبة مجموعة من الأهازيج والأغاني التراثية، كالمربعات والجالغي البغدادي، لبث الحماس والتسلية بين الحضور، ويكون اللعب على شكل تسقيط بين فرق المحلات، إذ يحصل الفريق الفائز في آخر أيام شهر رمضان على الجائزة الكبرى .وتوجد حالياً دورات للعب المحيبس على مستوى دول الخليج العربي.
فانوس رمضان في مصر
كل عام، يستقبل الشعب المصري رمضان بالفوانيس الملونة، التي ترمز إلى الوحدة والفرح طوال الشهر الكريم. ورغم أن هذا التقليد ثقافي أكثر منه ديني، غير أنه أصبح مرتبطاً بقوة بشهر رمضان المبارك، واكتسب أهمية روحية. كما أنه يعد أحد المظاهر الشعبية في مصر، وهو أيضاً واحد من الفنون الفولكلورية التي نالت اهتمام العديد من الفنانين والدارسين، حتى أن بعضهم قام بدراسة أكاديمية عن ظهوره وتطوره وارتباطه بشهر الصوم، ثم تحويله إلى قطعة جميلة من الديكور العربي في الكثير من البيوت المصرية الحديثة.
تختلف الروايات عن أصل الفانوس، لكن ثمة رواية بارزة تؤرخ ولادة الفانوس إلى إحدى ليالي عهد الأسرة الفاطمية، عندما استقبل المصريون الخليفة الفاطمي المعز لدين الله لدى وصوله القاهرة في أول ايام رمضان، فلتوفير مدخل مضاء له، أمر المسؤولون العسكريون السكان المحليين بإشعال الشموع في الشوارع المظلمة، ووضعها في إطارات خشبية للحيلولة دون نشوب حريق. وبمرور الوقت، ظهرت هذه الهياكل الخشبية في فوانيس منقوشة، يجري عرضها الآن في جميع أنحاء مصر لنشر الضوء خلال الشهر الكريم.

الفانوس وأهازيج الأطفال
توجد روايات عدة عن الفانوس واستخدامه لدى المؤرخين، منها أن الخليفة الفاطمي كان دائماً ما يخرج إلى الشارع في ليلة رؤية هلال رمضان لاستطلاع الهلال، وكان الأطفال يخرجون معه يحمل كل منهم فانوساً ليضيئوا له الطريق، وكانوا يهزجون ببعض الأغاني التي تعبرعن فرحتهم بقدوم الشهر.
كما تفنن المصريون في أداء أهزوجة تصدح بالغناء القديم، وحوي يا وحوي، من خلال الفانوس، إذ ارتبط الغناء والفانوس بالأطفال. كما أن المصريين فرقوا بين فانوس رمضان للأطفال والمصباح المنزلي الذي كانت له أشكاله المتنوعة واستخداماته أيضاً.
اليوم، غالباً ما يجري دمج الفانوس مع التقاليد المحلية الأخرى، فعلى سبيل المثال، خلال الشهر الكريم، يسير الأطفال في الشوارع بفوانيسهم، ويغنون بمرح، بينما يطلبون الهدايا والحلويات.

انتشار ظاهرة الفانوس المصري في العالم العربي
انتقلت فكرة الفانوس المصري إلى غالبية الدول العربية، إذ أصبح جزءاً من تقاليد شهر رمضان، لاسيما في دمشق وحلب والقدس وغزة.

طقوس تطهير النفوس في إندونيسيا
يحرص الإندونيسيون، قبل حلول شهر رمضان، على الاستحمام في نهر (تانجيرانج) لتطهير أنفسهم من الخطايا والآثام. ويتبع الإندونسيون هذا التقليد في كل مناطق إندونيسيا، وفي سومطرة الغربية تحديداً. كما يتمتع شعب (مينانغكاباو) بطقس يعرف بــ (باليماو) للترحيب بشهر رمضان، وهو الاستحمام باستخدام عصير الليمون، ويمارس هذا الطقس في المناطق التي تتدفق فيها الأنهار أو أماكن الاستحمام العامة. الفلسفة من وراء هذا الطقس هي تطهير النفس والجسد والعقل قبل قدوم شهررمضان المبارك. وسبب اختيار الليمون يعود إلى تقليد قديم كان يتبعه الإندونيسيون منذ قرون مضت، حين كان الناس في ذلك الوقت لا يعرفون الصابون الذي نستخدمه في أيامنا هذه، لذلك كانوا يستعملون الليمون للتطهير. في جميع أنحاء إندونيسيا، يمارس المسلمون طقوساً مختلفة لتطهير أنفسهم في آخر أيام شهر شعبان لاستقبال شهر رمضان، وتحتفظ مناطق عدة في جاوة الوسطى والشرقية بتقليد لتطهير الجسد يسمى (بادوسان) ويعني الاستحمام باللهجة الجاوية، إذ يغوص المسلمون الجاويون في الينابيع، وينقعون أجسادهم من الرأس إلى أخمص القدمين. بادوسان هو شهادة على التوليف بين الدين والثقافة في إندونيسيا، وتتمتع الينابيع بأهمية روحية عميقة في الثقافة الجاوية، وهي جزء لا يتجزأ من التطهير لاستقبال الشهر الكريم.
يُعتقد أن هذه الممارسة قد نشرتها مجموعة Wali Songo، وهي مجموعة من الأولياء الموقرين الذين كانوا من أوائل المبشرين الذين نقلوا التعاليم الإسلامية إلى جميع أنحاء جاوة. وهم شخصيات إسلامية اشتهرت في عالم الملايو، ولاسيما في جزيرة جاوة الإندونيسية بسبب دورها التاريخي في انتشار الإسلام بإندونيسيا في القرن التاسع الهجري، إذ يعتقد أن هؤلاء هم المسؤولون عن تغيير الديانة الجاوية المتمثلة بالهندوسية والبوذية إلى الإسلام، وأصبح من بعدهم عدد المسلمين في إندونيسيا اليوم هو الأعلى في العالم. منذ سنوات، كان من الشائع لدى كبار السن والزعماء الدينيين المحليين، اختيار وتخصيص الينابيع المقدسة لبادوسان.
في الوقت الحاضر، يذهب الكثيرون إلى البحيرات وأحواض السباحة القريبة، بينما يطهر البعض أنفسهم في منازلهم.
الطبالون في تركيا
الطبالون في تركيا يتمسكون بعاداتهم القديمة، إذ يجوبون شوارع تركيا لأيقاظ سكان المناطق. ويُصر طبّالو مدينة اسطنبول التركية على حماية هذه العادة المتوارثة عن أجدادهم العثمانيين، المتمثلة بالتجوال في المدن وقرع الطبول في الثلث الأخير من الليل، طوال شهر رمضان، لإيقاظ السكان لتناول السحور، فبينما يعم الهدوء والظلام غالبية المدن التركية، لا شيء يُسمع سوى قرع الطبول في تركيا. ويشير الطبالون الأتراك إلى أن قرع الطبول لا يحقق الكثير من المال لديهم، وأن ما يحصلون عليه هو بمثابة (بقشيش) ومكافآت صغيرة تتراوح ما بين 1- 20 دولاراً أمريكياً، في حين يؤكد غيرهم أن الهدف من تجوالهم هو الحفاظ على العادات والتقاليد لديهم، كي تبقى معاصرة، مضيفين ”هذه أفضل مكافأة لنا، عندما نوقظ الناس لتناول وجبة السحور“. يرتدي الطبالون الزي العثماني التقليدي، بما في ذلك الطربوش والسترة المزينة بزخارف تقليدية. ويعتمد قارعو الطبول في رمضان أثناء تجوالهم مع الطبل التركي على كرم السكان في إعطائهم الإكراميات (البقاشيش)، أو حتى دعوتهم للمشاركة في وجبة السحور. وعادة ما يتم جمع هذه البقاشيش مرتين في الشهر الكريم، إذ يعتقد العديد من المانحين أنهم سيحصلون على الحظ السعيد مقابل لطفهم مع الطبالين، ويشير غالبية طبالي تركيا إلى أن معظم السكان يرحبون بمرور الطبالين في مناطقهم، باستثناء أقلية صغيرة يزعجها قرع الطبول، كالمرضى وكبار السن والأمهات والأطفال الصغار. تتراوح أعمار قارعي الطبول في اسطنبول ما بين الأربعين والخمسين، ولا يهتم جيل الشباب بأخذ هذه المهمة على عاتقهم، وبعد تقديم الحكومة التركية الدعم لهذه الفئة ازداد عديدهم في السنوات الثلاث الماضية من 900 إلى 2000 في مدينة اسطنبول وحدها.بينما يمسك أحد الطبالين بعصا الطبلة يتابع حديثه، كاشفاً عن مخاوفه من أن تنتهي مهمتهم في رمضان وتُستبدل بالمنبهات الآلية، مبيناً أن تقديم حكومة بلاده الدعم لطبالي رمضان، من أزياء عثمانية، وبطاقات عضوية، أزالت تلك الهواجس لديهم، ما جعلهم يمارسونها بفخر، كما شجع ذلك جيل الشباب للحفاظ على هذا التقليد القديم في هذا البلد.

عن موقع/ ذا كلجر ترب