مهنٌ وأشخاص في رسوم شعبية

744

باسم عبد الحميد حمودي /

أستأثر الرسام الشعبي بتفاصيل الحياة في كل منحى, وأفاد من شخوص أصحاب المهن وحركاتهم الأثيرة, ونقل للمشاهد حركة الصانع الشعبي وتفاصيل الأداء الخاص بالمهنة، إذ تجد التفاصيل مبهرة لا تتقاطع مع الواقع الذي قامت عليه, بل تنهل منه وتضيف إليه من روح الفن الكثير.
البس.. من دق النجف
صورة البس, ويسمى :THE BUS بالإنكليزية، تأتي هنا مشحونة بالتفاصيل الكاريكاتيرية التي تجمع المسافرين داخل وخارج العربة بين صاعد ونازل بشكل أخّاذ يوحي بالبساطة والزحمة والارتجال المحسوب.
ويسمى هذا النوع من السيارات الشعبية، التي يكاد ينقرض وجودها: (باص دق النجف), لأنهم في المنطقة الصناعية من مدينة النجف الأشرف كانوا يأتون بها على شكل (شاصي), ثم يقوم الصانع الشعبي بصناعة وصياغة البدن الخشبي الذي يُركّب فوق الشاصي مع تفاصيله الجميلة وكراسيه ليكون جاهزاً للعمل بين مدن العراق وقراه خلال الزيارات المتصلة إلى هذه المدينة الدينية المقدسة التي يزور فيها الزائر مرقد الإمام علي (عليه السلام)، ثم تقوده قدماه إلى أسواق المدينة ليشتري منها ضالّته من معدات يحتاجها.
انتشر استخدام (البس)-بالباء المعجمة- في أنحاء المدن العراقية الجنوبية وأريافها وطرقها الزراعية لنقل الركاب وحاجياتهم، ومازال شاخصاً بين الريف والمدينة.
روى لي الأستاذ (عبد الرحمن جمعة الهيتي) أنهم في مدينة (هيت) يسمونها (القجمة)، وكانت تنقل العمال شهرياً من مدينة (هيت) إلى (حديثة) ليعملوا هناك ثم يعودوا بها إلى مدينتهم مرة كل شهر, وكانت نساء هيت يغنين في أعراسهن قديما: الله يخلي القجمة – تجيبلنه الغوالي, في إشارة إلى الأحباب المسافرين.
خدري الشاي
لوحة(خدري الشاي) الشهيرة رسمها الفنان العراقي الكبير نزار سليم, وهو قاص ومترجم إضافة إلى أعماله التشكيلية المعبّرة التي منها هذه اللوحة التي تعكس طقساً عراقياً يتم ساعة العصر عندما تتجمع الأسرة بعد نوم القيلولة البغدادية لشرب الشاي مع الكعك.
المرحوم نزار سليم قال لي يوماً إنه رسم هذه اللوحة مستوحياً ذلك الطقس البغدادي وأغنية (خدري الشاي خدري …. داده المن أخدره).
وهذه الأغنية الشعبية هي أساساً قصيدة للشاعر محمد الحداد تروي لوعة مُحبّة غادرها زوجها إلى (ديرة البصرة) للعمل والتكسب وتركها وحيدة حزينة تشكو لصويحباتها وحدتها بعد غياب المحب وتفصل في أشكال تخدير الشاي ووسائله.
غنت زكية جورج هذه الأغنية وتبعتها سليمة مراد وأخريات، وظل اللحن الشعبي شجياً إلى يومنا هذا بلحن الفنان الكبير صالح الكويتي الذي قدم أجمل الألحان للأغنية الشعبية العراقية.
الموناليزا العراقية
أجمل ما رأت العين من حسن عراقي، رسمها رسام أجنبي خلال الحرب العالمية الثانية , وانتشرت صورتها المبهرة في كل مكان من العراق.
يسمونها في الجنوب (بنت المعيدي) ويروون عنها حكايات، ويطلقون عليها باللغة الكوردية (كبيجكا فروش) ولها رواية مشابهة للرواية العربية الجنوبية، تحكي عن فتاة أحبها ضابط إنكليزي وتزوجها ونقلها معه إلى لندن.
الحكاية التركمانية تكاد لا تختلف عن الحكايتين السابقتين إلا في بعض التفاصيل, فهي بنت الصمانجي (بائع التبن)، التي عشقها ذلك الضابط واقترن بها, أما الرسم فواحد توزعته الطبعات المتعددة لصورة ذلك الجمال العراقي المتفرد.
جراخ السكاكين
هو الصانع الشعبي الذي يدور في حواري المدينة وأزقتها بملابسه الخاصة حاملاً عدته (آلة الجراخة) وهو ينادي على عمله داعياً نسوة البيوت الشعبية لتقديم سكاكين الدار، الكبيرة منها والصغيرة وفؤوس تكسير (الباجة)، لحدِّها بثمن زهيد.
فإذا ما خرجت امرأة من الدار ومعها سكاكين المنزل، أو خرج صبي يحمل عدة المطبخ من السكاكين, نصب الجراخ آلته وبدأ بتدوير العجلة لتتطاير شرارات سريعة من (المستحد) بين ضجيج الصبية الذين يتجمعون حوله حتى انتهاء حد آخر سكين يقدم له, متقاضيا مبالغ بسيطة, وبذلك تتخلص سيدة الدار من متاعب الذهاب إلى السوق لحد سكاكينها, فيما ينصرف جراخ السكاكين إلى محلة أخرى منادياً على عمله.
الخيّاطة
كانت معظم نساء المدن والأرياف لا يتقنَّ خياطة ملابسهن ويملن إلى تفصيل ثيابهن المنزلية عند خياطات المدينة. ورغم صعوبة هذه المهنة ودقة تفاصيلها، كانت خياطة الطرف (الشارع) مركزاً لتجمع النساء وحواراتهن مع بعضهن ونقاشاتهن مع الخياطة عن هذا (الفصال) أو هذه التطريزة.
خياطة المنطقة –المحلة – الشارع مشغولة دوماً إذا أحسنت العمل وذاع صيتها, لذلك تجد قطع القماش للراغبات منثورة قرب الماكنة التي تعمل عليها.
نساء خمسينيات القرن الماضي يتذكرن تماماً صوت المغنية (هناء) الذي ينطلق من الإذاعة تكراراً وهي تبث اغنيتها (ياعيني يالخياطة خيطي هدومنا بساعة –بكرة يجينا العيد ويدق بابنا ساعة)، وكانت هذه الأغنية تتكرر إذاعتها يوم العرفات الذي يسبق ليلة العيد مصحوبة بأغنية أم كلثوم (يا ليلة العيد)!
بائعة الباقلاء
عند مفترق الحواري والأزقة البغدادية والحلّية تجلس بائعة الباقلاء أيام الشتاء وهي تبيع الباقلاء المسلوقة محاطة بالنسوة مع قدورهن التي تملؤها البائعة بمبالغ يسيرة بعد جلسة حوار سريعة بين الجالسات والبائعة التي ترتاد المكان صباح كل يوم، حيث تنقع الباقلاء مع الخبز اليابس بماء الباقلاء الذي يذر عليه مسحوق (البطنج) لتكون الأكلة شهية صالحة لمن تشتهي.
الأفندي.. وصور أخرى
تشذ صورة الأفندي عن بقية الرسوم لأنها تبدو شخصية أكثر من سواها, لا ترتبط بمهنة بل بـ (هيأة) أو (شخصية) بينما تتوزع بقية الصور الشعبية المرسومة إلى مهن وحِرَف مثل (بائع الفرارات) و(بائعة الشاي) و(غازلة الصوف) وكذلك(الإسكافي) الوقور المتفرد في مكانه الأثير عند زاوية شارع ضيق يصلح أحذية النسوة التي كان المرتفِع منها ذو الكعب العالي يسمى (السكاربيل)!
من الصور الشعبية الأخرى، التي طبعت بآلاف النسخ وعلقت في المقاهي والسيارات والأماكن العامة، صورة الفارس الشاعر عنترة بن شداد العبسي وحبيبته عبلة بنت عمه مالك وهو يقود موكبها بعد الانتصار على أعدائه في ملحمة شعبية جميلة التفاصيل.
ولكل صورة شعبية حكاية وسالفة.. وأثر.