موسيقى رغم القيد

812

#خليك_بالبيت

مقداد عبد الرضا/

في الصفحات الأولى من كتاب (المراقبة والمعاقبة, ولادة السجن) للمفكر ميشيل فوكو, هناك صور عدة توضح المعنى الحقيقي لواقع السجون في القرون الوسطى والأشكال التي يتعرض لها السجين من عنف وإهانة واضطهاد. صورة واحدة ظلت عالقة في ذهني حتى أنها كانت تأتي كنوع من كابوس مرات عدة. الصورة عبارة عن مجموعة فتحات يطل منها السجناء على رجل يقف بالمرصاد ليلقي محاضرة في الحط من قدرات هؤلاء البشر ودفعهم إلى أن يتخرجوا أكثر قسوة وأكثر عنفاً, لكن (القوانين المتراوحة بين التنظيمات الإدارية لأوضاع الفئات الناشئة مع ظهور الصناعة، وبين العقوبات الجرمية, وشارك هنا المفكرون والمصلحون الاجتماعيون والكتاب والصحافيون بتطوير أشكال الرعاية والحماية للعمال والأطفال والنساء، وصولاً إلى سنِّ القوانين الحديثة المصاحبة لنشوء النقابات وشرعيتها والدفاع واحترام آدمية الإنسان وتحويله من مجرم لا يمكن إصلاحه والتعايش معه، إلى إنسان سوي يستطيع أن يندمج كثيراً مع العالم المحيط به إذا ما أحسن التعامل معه داخل السجون).
سربُ حمامٍ يطير فوق سجن ليوحي لنا بالفرق بين الحرية والسجن, فجأة ينتقل المخرج (كرس كراوس) إلى إحدى الزنزانات ليؤكد لنا هذا الفرق, جثة معلقة وفتاة تقفز فزعة من نومها, لكنها بعد حين تستوعب المشهد, تمد يدها إلى جيب الجثة لتخرج سيكارة تضعها في فمها وتغادر الكادر, يا للقسوة.
بهذه الطريقة يبدأ فلم (أربع دقائق), على وجه المرآة ينعكس وجه السجينة (جين) وهي مقيدة تعزف على آلة الأورغن, بدا التأثير واضحاً على ذلك الوجه الساكن والشاحب في الوقت نفسه للآنسة كروكر الطاعنة في السن وهي تصغي لتلك الأصابع التي تقفز خفة للعزف, سحنتان مختلفتان, وجه ساكن والآخر يوحي بالتوتر والعداء. لكن مع هذا الفارق تتفق الآنسة العجوز كروكر مع جيني لتعلمها العزف على آلة البيانو، إذ أن هناك مسابقة للعزف, يحدث ذلك ضمن مجموعة شروط تدلي بها العجوز، أولها الطاعة التي على ما يبدو لا تتلاءم وطبيعة جين، لذلك سنلاحظ أن هناك توترات تصاحب الأحداث، منها صفعة هائلة توجهها المعلمة إلى وجه جين حينما تصر على عزف موسيقى الزنوج غير المحببة للمعلمة. أحد الصحافيين يزور السجن من أجل إنجاز تحقيق عنه, لكنه في الأثناء يكتشف قصة جين والمعلمة، لذلك يطلب أن تسمح المعلمة لجين بالعزف لمدة أربع دقائق, تضع جين القيود في يديها من الخلف وتبدأ بالعزف وسط ذهول الجميع وإعجابهم للطريقة التي تعزف بها, لكن المعلمة لا يعجبها نوع الموسيقى التي تعزف، لذلك تصر على تغيير حياة جين التي منها نتعرف على أيامها السابقة وما عانته في حياتها. تخطط جين للهرب، لكن محاولتها تبوء بالفشل، عند هذه النقطة تنشأ علاقة حميمة بينهما. الآنسة كروكر تستطيع في النهاية أن تضع جين داخل آلة البيانو وتهربها إلى خارج السجن. لم يكن القصد الموسيقى حسب، كما صرحت به عند بداية الفلم, بل هي الموهبة الرائعة التي تتمتع بها هذه الفتاة، وليس من الإنصاف والعدل أن تنتهي داخل سجن, الموسيقى هي الخلاص إذاً؟ يصل الفلم إلى دقائقه الأخيرة، إذ تتمكن جين من الوصول إلى صالة المسابقة, تصعد إلى المنصة وتبدأ هذه المرة بعزف مقطوعة لشومان, في الأثناء تكون الشرطة قد طوقت المكان للبحث عن جين, أربع دقائق هي الحد الفاصل بين النهاية ودخول الشرطة، وذلك الاسترخاء الجميل للآنسة العجوز التي جلست تستمع في الصالة. ينتهي العزف, تتوجه جين إلى معلمتها، تنحني لها وترفع يدها بتحية العرفان, تتلقف الشرطة هاتين اليدين لتضع القيود فيهما. تتجمد اللقطة وتأتي النهاية, ربما سيصبح السجن كله موسيقى.
إن الإنسان يستطيع أن يعزف موسيقاه حتى في أشد الأماكن حلكة, هذا ما أراد المخرج أن يوصله لنا، وقد تفوق في ذلك. في عام 1836 كتب أحد المراسلين: “أيها الأخلاقيون والفلاسفة والمشرعون, هذا هو تصميم مدينتكم قد وضع بشكل مريب, هذه هي اللحظة المستكملة حيث تقف كل الأشياء المتشابهة في الوسط, وفي العرصة الأولى هناك مستشفيات لكل الأمراض, مأوى لكل حالات البؤس والشقاء, بيوت لإيواء المجانين, سجون وأشغال شاقة للرجال والنساء والأطفال, وحول العرصة ثكنات ومحاكم ومراكز شرطة, موقع للمشانق, مسكن للجلاد ومساعديه, في الزوايا الأربع, مجلس النواب ومجلس الشيوخ, معهد وقصر الملك. وفي الخارج هناك ما يغذي العرصة الأولى, التجارة وخداعها وألاعيبها والصناعة وصراعاتها العنيفة, الصحافة وسفسطاتها وبيوت القمار والبغاء والشعب المتضور جوعاً أو المتردي في الدعارة, المستعد دائماً لتلبية نداء دعاة الثورات والأغنياء والمتحجري القلوب, وأخيراً الحرب الضاربة في كل مكان, حرب الجميع ضد الجميع .”