ميشا

884

يوسف المحمداوي /

اليوم استعرض بعض البعض من قدسية العشق الذي يستعمرني كالداء لهذه الفاتنة، ولايمكن لعاذلٍ أن يلومني في هذا الهوى، وخاتم الأنبياء(ص)حين هاجر من مكة صوب المدينة باح بمحبته لمكّة، مهد طفولته وصباه، قائلاً: (ما أطيبَك من بلدٍ، وما أحبَّك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنتُ غيرَك).
وأنا أقول إن أقسى عقوبة تلقيتها في حياتي هي حين قرر والدي مغادرة مضيف نخلة الله، لأشعر اليوم وبعد عقود من الفراق أن (سيّاح) أمي ألذ من أطيب (بيتزا) في العالم، وبفراقها أشعر أني أغضبت ملائكتها البشر: الجويبراوي مؤرخاً لأعلامها ورموزها وشواخصها، للمندائي عبد الجبار عبد الله وهو يتسلم هدية النبوغ من آينشتاين، زهرون عمارة وهو يصوغ للملوك والسلاطين تحفاً استوطنت متاحف العالم أجمع، مسعود العمارتلي الذي رقّص القصب لعذوبة صوته منشداً: “عزيزين بويه والله عزيزين”، لكاظم الخليفة وهو يلوّن الجمال بالإبداع والإبداع بالجمال، لياسين المحمداوي وهو يدوّن سومرياتها بالكرافيك، لشوكت الربيعي وهو يؤرشف جغرافيتها الانطباعية في اللوحة، لأحمد البياتي وهويغازل عرش”تسواهن” بنصبه وسط ميشا القلب، لأمير الشيخ وهو يرسم لوحة الشهادة بدمه الزكي، لليهودي داود كيباي وهو يعالج الفقراء مجاناً في محلة التوراة، لجمعة اللامي وهو يسرد لي ماتبقى من أرشيف الماجدية، لنجم والي مبحراً في عموريا، للميعة عباس عمارة وهي تسأل مهد صباها “أرد أسألك .. وبحسن نية محلفك بالله ترد.. ربك بيوم الـصـوّرك جم يوم طينك نكعه بماي الورد؟”، ولمالك المطلبي وهو يحفر في ينابيع المملكة عن عشبة الإبداع، والكبير حسب الشيخ جعفر يعاتبني لفراق محبوبته نخلة الله:
“ندياً وجهك الذهبي يتبعني
كطير البحر يحضن غيبة السفنِ
ويلمح في رفيف جناحه كفني
طريداً أذرع الدنيا
على كسرات حبك جائعاً
أحيا بلا أهل ولا وطنِ ”
ليجيبه سعدون جابر من بعيد “ياطيور الطايرة مري بهلي” فيجيبه كريم منصور “بس تعالوا” ولشاعر الجنوب عيسى الياسري وهو يرسم محبوبته بالكلمات في منفاه والشاعر المنشداوي يعاتبني كهورٍ مستقل، ومطشر عبد النبي يكتب لبلبل الجنوب داخل حسن “اهنا يمن جِنه وجنت …جينه وكعدنه ابابك”، وللشاعر الحبيب كاظم غيلان وهو يدوّن نصب الحرية في برجوازية ليله، ولسميرة مزعل المصورة والمناضلة تؤرشف مدينتها بعدسة إبداعها، والمئات من الملائكة البشر غيرهم بانتظار من يؤرشف للأجيال القادمة ويقول: هذه رموزكم وشواخصكم وتكوينكم وحضارتكم ومملكتكم.
سمكها لايشبهه سمك وهو ممدّد على “طابك التمن ” كعريس وعروس متعانقان، طينها الحرّي لايماثله طين، وطن لأجنحة قادمة من الغرب، هوساتها رقصات الطيور، مواويلها أغاني القصب، عرسها وحزنها طرب، عذراً يادرويش حين أقول: “كن عماريّا لتصبح شاعراً ياصاحبي”، لهجة أبنائها بلابل تزغرد، ضحكة سنابلها، موائد مضايفها، صرائفها قصور لأحلام تطير كالملائكة على رؤوس ساكنيها الفقراء، لايشبهها في الكون سواها، ماء دجلة غناها، من يشبه هواءها وهو يتعطر بسعف الرطب، جاموسها الأسود بياض حليب العافية، صوف أغنامها عباءات لأمراء الخليج.
لأبناء المدينة، للبربرة (صيادي السمك)، للمعدان (رعاة الجاموس)، للفلاحين من سكنة الأرياف وهم ينادون على البلم المار في دجلته بكلمة (إفلح) وهي فعل أمر لوجوب وقوف العابر الغريب واستضافته في كوخه او بيته الطيني، للبلم، للمشحوف، للشختورة، عشقي لكل هؤلاء لم ولن يساومني عليه أحد.
نعم، هي مملكة الأديان التي فيها تتعانق المساجد مع الكنائس والأديرة والمعابد، ثراء آثارها سحر الدنيا، وغنى أهوارها التي تعدل “فينيسيا” بطبيعتها، وطيبة أهلها التي لا توصف متأتية من نقاء دجلتها وقداسة تلك الارض التي يجتمع فيها مرقد النبي العزير مع مراقد الأولياء وكنيسة أم الأحزان ومندى الصابئة، وذكرياتها التي لا تبلى، وختام القول ماجادت به قريحة أحد شعرائها:
يا ذكرياتُ أصفحي عنّا فإنّ بنا
طفولةً لم تزلْ في سجنِ سجّانِ
عمرٌ طويناه لم نعرفْ طفولتَنا
من فرطِ قهرٍ بنا، أو فرطِ حرمانِ
هي العمارةُ فجرُ العمرِ.. مرضعتي
وما أزالُ رضيعاً حين تنخاني.

ميشا : اسم ميسان القديم