“نابو”.. احتفل على ضفافه البابليون وحوّله أحفادهم الى مكب للنفايات

1٬214

يوسف محمد /

يسعى أهالي بابل يساندهم مثقفون واكاديميون الى إعادة نهر “اليهودية” الذي كانوا قد حولوه الى مبزل مهمل لكنهم الان يعتزمون اعادته تحت تسمية نهر العطاء نسبة الى الحقبة البابلية التي كانت عطاء للبشرية جمعاء.

وعلى شاطئ نهر اليهودية اعتاد البابليون قبل اكثر من 3500 عام الاحتفال بعيد انكيدو الذي يشير الى قدوم الربيع وبداية أعياد رأس السنة البابلية، وكانت تقام على مدى احد عشر يوما احتفالات ضخمة على طول قناة بابل والتي تسمى أيضا بقناة نابو التي تتفرع من نهر الحلة شمال المدينة وتخترقها لتصل الى معبد ازاكيلا في منطقة تسمى بورسيبا.

وسمي بـ (نهر اليهودية) نسبة الى الاسرى اليهود الذين اقتادتهم الجيوش البابلية الى مدينة بابل في أعوام 550 ق.م، ومازالت مشاهدهم ومنازلهم وقبورهم حاضرة حتى الان.

ولم يتوقع البابليون ان احفادهم سيحولون هذا النهر الى مكب لنفايات ومجاري بابل حتى ليلعنوا الساعة الذي حفر فيها آنذاك بطريقة هندسية مدروسة لفتت انتباه كل من زار النهر من مستشرقين وباحثين ابان القرون الماضية، ولن يقتصر النهر في إقامة الاحتفالات بل كان لفترة ليست بالطويلة ينعش مزارع كبرى في مناطق الطهمازية والجمعية وبستان الحلو وجنوب بابل.

وينظر الان أهالي مناطق احياء الكرامة والحسين والجمعية والإسكان ونادر والمرتضى في محافظة بابل بحسرة الى المبزل الذي تفوح منه رائحة المجاري مسبباً تلوثا بيئيا بسبب اهمال الحكومة المحلية خلال السنوات الماضية برغم المحاولات لاعلان اعادة النهر الى سابق عهده من قبل جهة مستثمرة.
رمز لكل الاطياف

يقول عضو مجلس محافظة بابل عقيل الربيعي لـ “مجلة الشبكة” ان” الحكومة المحلية أخذت في السنوات الماضية اهتماما كبيرا وملحوظا بإعادة احياء نهر الحلة واعلن في وقتها عن استثمار النهر ليكون منطقة سياحية، وشكلت عدة لجان للكشف عن المحرمات على جانبي النهر وعقدت اجتماعات كثيرة وكتحصيل حاصل قدم عدد من الشركات العربية والمحلية والأجنبية دراسات ومخططات عن الكيفية التي سيكون عليها شكل النهر والمشاريع التي ستقام قربه، واستقر الرأي على مخطط قدمته شركة أمريكية، باعتبار ان النهر يشكل رمزا لدى كل الاطياف ويمتلك شهرة ومعرفة لدى المهتمين في العالم”. الا اننا اصطدمنا بالمبالغ الطائلة في حال تنفيذ الشركة مشروعها وهي مبالغ لاتمتلكها ميزانية المحافظة، ما اضطر المجلس الى ان يخاطب الحكومة المركزية بذلك، لكن لم توفر الاموال اللازمة بسبب الازمة المالية التي تمر فيها البلاد”.
ويستدرك ان ” المبزل الان يشكل خطرا كبيرا يهدد حياة المواطنين لانه اصبح مكبا للنفايات والبيوتات القريبة منه تضررت وراح ضحية ذلك عدد من الأطفال”. مبينا ان” مديرية البيئة ترسل تقريرا شهريا عن المبزل بعد ان تأخذ مسوحات على المبزل في كل تقرير نلاحظ وجود نسب من مواد كيمياوية خطيرة بينها مادة النترات القاتلة وعناصر الرصاص والكروم وفيها من الطفيليات والبكتريا الضارة، هذا فضلا عن الجذران الناقلة للأمراض والسلاحف”.
مناطق محيطة بالنهر

بدوره يرى مدير البلدية الأسبق المهندس سامي علي، ان إعادة المبزل الى اصله الحقيقي سيواجه عددا من العقبات ولابد من التدخل المباشر من الحكومة المركزية كي يتم رفع مضخات المجاري والقطوعات التي حصلت والتجاوزات أيضا على مجرى النهر”.ويضيف ان “الحكومة لو تجاوزت هذه العقبات فعلى المعنيين والفنيين القيام بفتح قناة لمجرى النهر تحت المجسر ورفع مضخات المجاري التي تصب بالمبزل مسببة تلوثا بيئيا كبيرا.
وبحسب معلومات سامي فإن “اليهود سكنوا المناطق المحيطة بالنهر منذ عهد قديم، وما زالت معابدهم الثلاثة موجودة حتى يومنا هذا في المدينة، وقد استغلت من قبل التجار لفتح محال تجارية فيها، بعد أن هاجر أغلب اليهود عام 1967″، بحسب قوله.

نهر العطاء

ويسعى أعضاء ملتقى “الود للفنون والثقافة” عبر ندواتهم ولقاءاتهم لاعادة تأهيل وتحويل المبزل الى نهر كسابق عهده. يقول الاكاديمي ومدير قاعة الود للثقافة والفنون الدكتور باسم العسماوي “دائما تتاح لي سفرات الى خارج البلاد لحضور مؤتمرات ثقافية وفنية وحين يسألونني من أي مدينة اقول لهم انا من بابل ويحيطونبي بالحفاوة والتقدير ويسألونني عن مدينة بابل الاثرية ونهر بابل. فينتابني أسى كبير لما آل اليه حال النهر حاليا.
ويضيف العسماوي ان” مجموعة من المثقفين وانا منهم عقدنا العزم على إقامة الندوات والحوارات مع الحكومة المحلية كوسيلة ضغط لإعادة المجرى كنهر يتدفق فيه الماء وينشر الخير للجميع، واتفقنا ان نسمي النهر “العطاء” لان الماء اولا واخيرا فيه حياة لكل شيء وهو معطاء للبشرية “.
وفي حديثه لـ (الشبكة) يقول الشاعر سعد الشلاه ان” مشروعا كهذا مهم جدا بالنسبة لي، فأنا ومنذ زمن بعيد أردت ان ألقي قصيدتي امام جمع من البشرية يمثلون كل بلاد العرب والشام والعالم واستوحي من قصائدي أجواء الاحتفالات البابلية القديمة التي كانت تجري على ضفاف هذا النهر سنويا”.

حكاية 1988

ونظرا لاقتران اسم القناة باليهود، قرر محافظ بابل آنذاك هاشم المجيد عام 1988 طمر تلك القناة. وحاول أن يضيع معالمها بتقسيمها إلى قطع للأراضي السكنية، إلا أن مشروعه لم يتحقق لأنه أعفي من منصبه.

ويؤكد المدير السابق لمديرية ماء ومجاري بابل كاظم حمادي أن “مناسيب المياه الجوفية ارتفعت بعد شهر من دفن القناة، وبدأت تطفو بحيرات من المياه في عدد من أحياء المدينة كالثورة والضباط والجمعية والكرامة وحي الحسين وأحياء أخرى قريبة من القناة”.

احياء النهر

وتشير الدكتورة نهلة يعسوب تدريسية في جامعة بابل إلى أن “أساتذة جامعة بابل في أول مؤتمر علمي لهم عام 1992 ناقشوا مشكلة ارتفاع مناسيب المياه الجوفية لهذه المناطق، وطالبوا في نهاية المؤتمر بإعادة شق النهر لحل مشكلة المياه الجوفية”، وتتابع “وفي عام 1993 أمر محافظ بابل آنذاك طالع خليل الدوري بشق القناة من جديد لتكون مبزلا لسحب المياه الجوفية، لكنه بقي متروكا دون إجراء أي أعمال صيانة فيه”.

وكانت الإدارة المحلية في محافظة بابل شكلت، في الفترة القريبة الماضية، لجنة لإعادة إحياء النهر، تضم ممثلين عن بلدية الحلة وري بابل والمجاري والبيئة، بهدف تقديم مقترحات لتحويله إلى أثر سياحي.

وتؤكد النصوص الدينية اليهودية أن عددا من الأنبياء اليهود مثل دانيال وحزقيال وأشعيا وأرميا “الذي دعا إلى الاندماج مع المجتمع البابلي لأنه يمثل أكثر المجتمعات تطورا في العالم حينذاك”، عاشوا في منطقة بابل في القرن السادس قبل الميلاد، وتمكنوا من كتابة جزء كبير من أهم الكتب والتعاليم اليهودية في بابل. وهناك عدد كبير من الباحثين الذين يشيرون إلى أن هؤلاء الأنبياء أطلعوا وبشكل عميق على التراث الديني والحضاري العراقي واستعانوا به في كتابة مخطوطاتهم الدينية.