نساء بغداد بقلم سائحة أوروبية في القرن التاسع عشر

1٬788

ارشيف واعداد عامر بدر حسون /

قامت الرحالة النمساوية “آيدا فايفر” برحلة الى العراق عام 1848 ونشرت انطباعاتها عما رأته في كتاب أصدرته عام 1850 بعنوان “رحلة امرأة حول العالم”، ومنه اخترنا مشاهداتها للنساء العراقيات وللبيت البغدادي وهي بترجمة الدكتور صباح الناصري.
“كـان بـيـن الـنّـسـاء والـفـتـيـات الـحـاضـرات في الحفلة بـعـض مـن رائـعـات الـجـمـال، وكـنّ جـمـيـعـاً خـلّابـات للأنـظـار، لا يـمـكـن لـشـاب أن يـخـتـلـس إلـيـهـن الـنّـظـرات مـن غـيـر أن يـسـقـط في دائـرة سـحـرهـنّ، وهـذا يـعـود إلى مـهـارتـهـنّ في صـبـغ أهـدابـهـنّ وحـواجـبـهـنّ وقـد أزلـن مـن حـواجـبـهـنّ كـل شـعـرة صـغـيـرة تـخـرج عـن تـخـطـيـطـهـا الـمـاهـر!
أمّـا مـن لـيـس لـهـنّ مـا يـكـفي مـن شـعـر يـمـلأ هـذا الـتّـخـطـيـط فـقـد أكـمـلـن مـا يـنـقـص بـرسـمـه بـالـقـلـم.. وكـلّ هـذا يـزيـد مـن بـريـق أعـيـنـهـنّ. ونـجـد رغـبـة الـتّـوصـل إلى هـذا الـجـمـال الـمـصـطـنـع حـتّى عـنـد نـسـاء الـعـامـة مـن الـخـادمـات.
وارتـدت الـنّـسـاء مـلابـس عـلى الـطّـراز الـيـونـاني ــ الـتّـركي، فـلـبـسـن سـراويـل حـريـر ربـطـت أسـافـلـهـا حـول الـكـاحـلـيـن، وفـوق الـسّـراويـل ثـيـاب طـويـلـة طـرّزت بـخـيـوط الـذّهـب، ضـيّـقـة حـول الـكـتـفـيـن ثـمّ تـنـفـتـح وتـتـدلى بـسـعـة. أمّـا الـذّراعـان فـيـغـطـيـهـمـا الـحـريـر، ويـربـطـن خـاصـراتـهـنّ بـأحـزمـة بـعـرض الـكـف تـزيـنـهـا مـن الأمـام أزرار واسـعـة مـن ذهـب مـطـعـمـة بـالـمـيـنـا، وعـلى الـجـانـبـيـن أزرار أصـغـر مـنـهـا.
وتـزيـن مـعـاصـمـهـنّ ونـحـورهـنّ وصـدورهـنّ أسـاور وقـلائـد مـن الـلـؤلـؤ والـجـواهـر وبـيـنـهـا قـطـع نـقـود مـن الـذّهـب. وتـنـحـدر جـدائـل رقـيـقـة مـن أعـلى رؤوسـهـن وتـسـقـط في أحـضـانـهـنّ. ومـن الـمـؤسـف أنّ ذوق بـعـضـهـنّ الـسّـيئ دفـعـهـن إلى صـبـغ شـعـورهـنّ فـتـحـول الـسّـواد الـلامـع إلى نـوع مـن الـبـنّي الأحـمـر الـشّـديـد الـقـبـح.
ورغـم أنّ مـظـهـر مـجـمـوعـة الـنّـسـاء جـذّاب، إلا أن صـحـبـتهـنّ لا مـتـعـة فـيـهـا ولا تـشـويـق! فقـد الـتـزمـن الـصّـمـت بـاسـتـمـرار، ولـم يـظـهـر عـلى وجـه أيّـة واحـدة مـنـهـنّ لا انـفـعـال ولا تـعـبـيـر عـن عـاطـفـة، وهـنّ يـحـتـجـن إلى بـهـارات الـحـيـاة : الـفـكـر والـتـعـلّـم، فـبـنـات الـبـلـد لـم يـعـلـمـونـهـنّ شـيـئـاً! وسـيـكـتـمـل تـعـلـيـمـهـنّ عـنـدمـا يـصـبـحـن قـادرات عـلى الـقـراءة بـلـغـاتـهـنّ (الأرمـنـيـة أو الـعـربـيـة)، ولـكـن حـتّى لـو تـوصـلـن إلى ذلـك، فـهـل سـيـجـدن مـا يـقـرأن مـا عـدا الـكـتـب الـدّيـنـيـة؟”
زيـارة لـحـريـم الـبـاشـا:
وقـد تـمـتـعـت بـزيـارة قـمـت بـهـا لأيّـام عـدّة بـعـد ذلـك إلى حـريـم الـبـاشـا. وكـانـت الـنّـسـاء ثـرثـارات ضـاحـكـات مـلـيـئـات بـالـمـرح والـمـزاح، إلى حـدّ أنّـهـنّ تـجـاوزن تـقـريـبـاً مـا أتـحـمّـلـه!
ووجـدت خـمـس عـشـرة مـنـهـنّ كـنّ قـد تـحـضّـرن لـزيـارتي، وتـزيّـنّ ولـبـسـن أبـهى ثـيـابـهـنّ مـثـل تـلـك الّـتي سـبـق أن وصـفـتـهـا. والإخـتـلاف الـوحـيـد هـو أنّ الـقـفـطـان الّـذي ارتـديـنـه فـوق الـثّـيـاب كـان أقـصـر ومـن قـمـاش يـشـفّ عـمّـا تـحـتـه، وأنّ عـمـائـمـهـنّ كـان يـزيـنـهـا ريـش نـعـام. ولـم أرَ بـيـنـهـنّ واحـدة شـديـدة الـجـمـال. ومـا عـدا حـلاوة في أعـيـنـهـنّ، فـلـيـس فـيـهـنّ نـبـل ولا تـقـاطـيـع وجـوه مـعـبّـرة.
والـحـريـم الـصّـيـفي الّـذي اسـتـقـبـلـتـني الـنّـسـاء فـيـه حـسـن الـبـنـاء، حـسـب الأسـالـيـب الـحـديـثـة لـلـمـعــمـار الأوروبي، وفـيـه نـوافـذ عـالـيـة جـيّـدة الانـفـتـاح. ووقـفـت وسـط حـديـقـة زهـور صـغـيـرة تـحـيـطـهـا بـسـاتـيـن أشـجـار فـواكـه. وبـعـد أن بـقـيـت مـعـهـنّ أكـثـر مـن سـاعـة، مُـدّت مـائـدة ووضـعـت حـولـهـا الـكـراسي. وقـد دعـتـني الـزّوجـة الـرّئـيـسـيـة لـلـجـلـوس، وكـانـت قـد جـلـسـت، ولـم تـنـتـظـر أن نـجـلـس قـبـل أن تـبـدأ بـاخـتـيـار مـا تـحـبّـه مـن الـصـحـون وتـأكـلـه بـأصـابـعـهـا. وقـد أجـبـرت أنـا أيـضـاً عـلى أخـذ الـطّـعـام بـأصـابـعي فـلـم يـكـن في الـدّار لا سـكـاكـيـن ولا شـوكـات! وفي نـهـايـة الـوجـبـة فـقـط جـلـبـت لي مـلـعـقـة شـاي صـغـيـرة مـن الـذّهـب لآكـل بـهـا. وكـانـت تـغـطي الـمـائـدة صـحـون مـن أكـلات مـمـتـازة، وأنـواع مـن الـرّز وكـمـيـات كـبـيـرة مـن الـحـلـويـات والـفـواكـه. وقـد وجـدتـهـا كـلّـهـا شـديـدة الـلـذة.
وبـعـد أن انـتـهـيـنـا جـلـسـنـا مـعـاً، ومـن لـم تـجـد مـقـعـداً جـلـسـت مـع أخـرى عـلى نـفـس الـمـقـعـد، ثـمّ جـاءت الإمـاء الـلاتي كـانـت بـيـنـهـنّ زنـجـيـات شـديـدات الـقـبـح وجـلـسـن حـول الـمـائـدة لـيـأكـلـن مـا تـركـنـاه.
ثـمّ جـلـبـت الـقـهـوة ودارت بـيـنـنـا في فـنـاجـيـن صـغـيـرة، وجـلـبـت الـنّـرجـيـلات. وكـانـت فـنـاجـيـن الـقـهـوة عـلى صـحـون صـغـيـرة مـن الـذّهـب طـعـمـت بـالـلـؤلـؤ والـفـيـروز.
ويـمـكـنـنـا أن نـفـرّق بـيـن نـسـاء الـبـاشـا وبـيـن الـخـادمـات والإمـاء فـقـط مـن مـلابـسـهـنّ وجـواهـرهـنّ، أمّـا في طـريـقـة تـصـرفـاتـهـنّ فـلـم أجـد فـرقـاً كـبـيـراً. وجـلـسـت الـخـادمـات مـن غـيـر تـردد عـلى الأرائـك، وشـاركـن في الـحـديـث مـن غـيـر أن يـسـمـح لـهـنّ أحـد بـذلـك، ودخّـنّ وشـربـن الـقـهـوة مـثـلـنـا تـمـامـاً. ويـعـامـل أهـل الـبـلـد الـخـدم والـعـبـيـد أحـسـن بـكـثـيـر مـمـا نـفـعـلـه مـعـهـم في أوروبـا. والـفـرق الـوحـيـد هـو أنّ الأتـراك مـا زالـوا يـمـتـلـكـون عـبـيـداً هـنـا.
الـبـيـوت الـبـغـداديـة :
وداخـل كـلّ دار أجـمـل مـن خـارجـهـا، حـوشـهـا نـظـيـف الـتّـجـصـيـص ونـوافـذهـا مـتـعـددة، وغـرفـهـا واسـعـة عـالـيـة وإن لـم يـكـن أثـاثـهـا بـجـمـال أثـاث دور دمـشـق. ويـشـتـدّ الـحـرّ هـنـا في الـصـيـف إلى حـدّ أنّـه يـنـبـغي عـلى الـنّـاس أن يـتـحـولـوا ثـلاث مـرّات في الـيـوم، فـيـقـضـون أولى سـاعـات الـصّـبـاح في حـجـرهـم الـمـعـتـادة، ثـمّ يـنـزلـون في نحـو الـسّـاعـة الـتّـاسـعـة إلى غـرف تـحـت الأرض يـسـمـونـهـا الـسّـراديـب، وهي تـشـبـه الأقـبـيـة عـلى عـمـق 15 أو 20 قـدمـاً، يـبـقـون فـيـهـا إلى الـمـغـرب. ثـمّ يـصـعـدون إلى الـسّـطـوح بـعـد أن تـغـيـب الـشّـمـس، وهـنـاك يـسـتـقـبـلـون الأهـل والأصـدقـاء يـثـرثـرون ويـرتـشـفـون الـشّـاي إلى أن يـحـلّ الـلـيـل، وهي عـنـدهـم أشـدّ الـسّـاعـات مـتـعـة، فـهـواء الـمـسـاء مـنـعـش يـعـيـد لـهـم حـيـويـتـهـم.
ويـؤكـد الـكـثـيـر عـلى أنّ ضـوء الـقـمـر هـنـا أشـدّ لـمـعـانـا مـمـا هـو عـلـيـه في سـمـائـنـا (أي في أوروبـا) ولـكـنـني لـم أجـد هـذا صـحـيـحـاً. ويـنـام الـنّـاس عـلى الـسّـطـوح تـحـت نـامـوسـيـات تـركّـب فـوق أسـرتـهـم وتـرتـفـع درجـات الـحـرارة في الـحـجـرات خـلال الـنّـهـار إلى أكـثـر مـن 37 درجـة، وفي الـشّـمـس إلى 50 أو 55 درجـة، ولـكـنّـهـا لا تـرتـفـع إلى أكـثـر من 31 درجـة في الـسّـراديـب. أمّـا في الـشّـتـاء فـالـبـرد يـشـتـدّ مـن مـغـيـب الـشّـمـس إلى ارتـفـاعـهـا في الـسّـمـاء في الـضّـحى فـيـشـعـل الـنّـاس الـنّـار في الـمـواقـد.