نصب رفعت الجادرجي وتساؤل طفل: لماذا الجنديُّ مجهول؟
عبدالزهرة زكي/
لا أذكر في أي عام من أعوام مطلع الستينات كنت قد زرت بغداد طفلاً صحبة والدي،
غير أني أذكر ما علق في وجداني من تلك الزيارة؛ صورة نصب الجندي المجهول في العاصمة، ومع هذه الصورة رسخت تلك الرحلة التي استغرقت ليلا كاملاً بالقطار من محطة المعقل في البصرة حتى المحطة العالمية في علاوي الحلة ببغداد.
إنها المرة الأولى التي أسافر فيها بقطار، ما إن تحرك وعلى وقع هدهدته حتى نعست
فكان سريري بين الحقائب على الرف المشبك المخصص لها والممتد فوق رؤوس المسافرين، ووضع لي والدي فراشاً ووسادة هي منشفته، حيث غفوت بعد اجتياز محطة الشعيبة ولم استفق إلا وقد أشرقت الشمس قبل بلوغنا بغداد بقليل أو كثير، لا أذكر.
لم يزاحم هذه الصورة العالقة لنصب الجندي المجهول، في سنوات الطفولة تلك، سوى تساؤل ظل من دون جواب مقنع: لماذا هذا الجندي مجهول؟
ما تبقى من سنواتي في البصرة كنت لا أكاد أسمع فيها باسم بغداد حتى وتشخص في خيالي صورة النصب بقوسه الهائل جداً، كما تحتفظ به ذاكرة الطفل، ومع صورة القوس يظلّ يُستعاد السؤال: لماذا جنديُّ بغداد مجهولٌ؟
إنه تساؤل له صلة بطبيعة التعبير اللغوي، لقد بقيت بعد تلك السفرة كثيراً ما أتساءل أيضاً عن معنى أن تكون تسمية منطقة المحطة العالمية ببغداد (علاوي الحلة) فيما هي ببغداد وليست في الحلة.
بعد سنوات كثيرة، بعد أكثر من عقدين على تلك الزيارة، عرفت معنى أن يكون جنديٌّ مجهولاً، ولكن كان لهذه المعرفة أن تحصل في صحراء كبيرة، وكان ثمن المعرفة بها باهظاً استغرق مني أجمل السنوات فأتلفها في تلك الصحراء وجعلنا جميعاً تحت وطأة التهديد بالموت وتقييد الحرية الشخصية لصالح الجندية الإلزامية، إنها صحراء حرب الثمانينات. لقد عرفت المعنى روحياً وأنا أقف على عشرات الجثث التي ظلت منسية في العراء، إنها جثث جنود مجهولين تزدردهم الحرب فتظل منهم عيون مفتَّحة على وسعها وهي تنتظر أمهات أن يأتين لينحنينَ ولتشكل أيُّ أمٍّ منهن بجسدها قوساً من العواطف يحفظ جثة الابن الصريع من قسوة معارك أخرى، قسوة يشنها عنف الطبيعة ضد جثة منسية ويؤججها عنف النسيان، نسيان قتيل في عراء الطبيعة وعراء الذاكرة والوجدان.
لقد أدركت هذا المعنى في الحرب، وعرفت معنى انحناءة القوس البغدادي، مرةً عبر وثيقة هي تخطيط أولي للنصب، كان الفنان قد وضعه لحركاتٍ متتالية عن انحناءة أمٍّ على ولدها وقد وقفت عليه قتيلاً، تنتهي مراحل الانحناءة المختلفة، كما في التخطيط، بذلك التقوس الذي يبدأ وينتهي عند قاعدتين تتصلان بالأرض هما أطراف الأم وقد تشبثت بالأرض من أجل حماية ابن قتيل، لكن المرة التي سبقت الاطلاع على الوثيقة التخطيطية كانت هي التي تعرفت فيها على الجانب الوجداني لتكوين النصب، وكانت تلك في صحارى الحرب الطويلة. لقد تمّ هذا التعرف على ما كنت أجهله وأنا طفل، وحصل إنما بعد فوات الأوان؛ بعدما التهمت الجرافاتُ القوسَ تماماً، وأطفئت الشعلة تحته. لقد اختفى نصب جنديٍّ مجهول من بغداد، وحلَّ محله تمثال دكتاتور معلوم.
لقد أزيل النصب، وكانت يراد بإزالته التعبير عملياً عن قتل رمزي لمرحلة سياسية سابقة كان النصب قد شمخ فيها. ولعل ظهور نصبين مختلفين لخالد الرحال واسماعيل فتاح الترك بعد إزالة نصب رفعت الجادرجي هو تأكيد على الدافع السياسي لتدمير أول نصب للجندي المجهول. النصبان العظيمان اللذان ارتفعا بعده بتسميتي (نصب الشهيد) و(نصب الجندي المجهول) في جانبي الرصافة والكرخ هما نصبان عظيمان حقاً عن حال واحد هو الجندي الشهيد، وبما يدعو للتساؤل عن داعي رفع النصب الأول، نصب الجادرجي، كان يمكن للنصب الثلاثة أن تتعايش بقيمها الجمالية والإنسانية، وكان يمكن لأي منها أن تناط به الوظيفة الرسمية للنصب، كنصب للجندي المجهول. الموضوع الواحد يحتمل عشرات النصب حين يعبّر كلّ نصب منها عن رؤية تشكيلية نحتية مختلفة عما لسواه من النصب الأخرى لطبيعة الموضوع.. كان يمكن لنصب الجادرجي أن يبقى، لكن النصب كان إيقونة لمرحلة سياسية جرت تصفية الحساب معها بالدم أولاً، وبتدمير النصب الرمز تالياً.
في نصب الجادرجي ثمة امتياز وجداني يتخفف من الطابع العام للبطولة والتضحية، ثمة انتباه إلى هذه الطبيعة الشخصية التي غالبا ما تهمل في أعمال كهذه، إنه عمل يستلهم الوجدان الحميم المضمخ بالأسى والحب.
ففي الحرب فقط أدركتْ روحي هذه القيمة العظيمة لتسمية النصب بالجندي المجهول وهي تسمية اختزلت مصيرَ ومعاناة ملايين الجنود المجهولين ممن أخذتهم حروب الدنيا وتركتهم هناك مرميين صرعى منسيين في ميادينها، من بعد ما يتصالح متحاربون ويعود أحياءٌ إلى حيواتهم ويزدهي منتصرون بانتصاراتهم ويدفع خاسرون ثمن خيباتهم، فيما ليس ثمة لأولئك الذين ظلوا في العراء سوى هذه القيمة الرمزية الفذة التي كان قد أختزلها عراقيٌّ خلاق في مطلع الستينات بقوس عظيم.
هل ثمة قيمة أنبل من أن يدير النصبُ وجهتَه مشيحاً عن كل رذائل الحروب؛ النصر والهزيمة والمارشات والأناشيد وزعيق التفاخر والتكبر، ويحتفظ بما هو جوهري، بالأسى، بالقيمة الإنسانية الخالصة المتبقية من كل هذا الحطام؟ هل ثمة ماهو أرفع على الأرض مما يذكّر بجندي مجهول سوى هذه الانحناءة وهذا الحنوّ الذي يقوّس ظهرَ أمٍّ على ابن ثكلتها الحربُ به؟
بهذا التجريد المتأسي، وبهذه اللمسة الحانية، اختطف رفعت الجادرجي من قلب كلِّ عراقيٍّ بعضَ دموع أساه التي ما انفكت تُذرَف في ذكرى من ماتوا ومن غُيِّبوا وقد أودعها في قوس نصبه الخالد. قوس الجادرجي كان هو الكون يحدب على روح قتيل مجهول.