هل انتهى حكم الجواري؟

1٬155

ارشيف واعداد عامر بدر حسون /

بدأ نظام “الحريم” عند الفرس الأولين، إذ انشأه ملوكهم الذين انقضّوا على الحضارات القديمة فهدموها، وهي حضارات البابليين والميديين والفراعنة. ويرجح المؤرخون أن دارا الأول هو الذي ابتدع نظام الحريم في بلاطه وجلب له الغانيات من البلاد التي أخضعها، ولم تكن الفتيات يبعن ويشترين أول الأمر، بل كان الملك يأمر بحملهن الى قصره متى أعجب بهن.

وهناك تمكث الواحدة منهن سنة كاملة تتغذى بغذاء خاص وتستحم بأنواع العطور، وتدلك بالزيوت ذات الرائحة الذكية، ثم بعد انقضاء العام يحظى بها الملك، ولا تخرج من القصر إلا الى القبر.

ثم نقل نظام الحريم عن الفرس الى قصور ملوك الشرق، واقتدى الوزراء والأمراء بالملوك، ومن ثم صار الرقيق الأبيض تجارة لكثرة المطلوب من الحسان. وظل نظام الحريم قائماً حتى أيام السلطان عبد الحميد والى ما بعده بقليل، وانقضى عهد الحريم هنا بموافقة مصر على معاهدة تحريم الاتجار بالرقيق في عهد الخديوي اسماعيل.

جواري الحريم كن يتمتعن بأشهى المآكل والأشربة، وكن يلبسن الحرير ويتجملن بالأحجار الكريمة، وكن يرقصن ويغنين وينعمن بأنفس ثمرات الفن الجميل، وكن يتنزهن في الرياض الفسيحة، وأحياناً كن يخرجن في نزهة نهرية أو يذهبن الى الغابات للفرجة على الصيد والقنص في خيام بديعة الصنع موشاة بالذهب والفضة، أكثر من هذا تمتعت به الجواري في القصور! فبعض الغواني حكمن القصر وبلاطه وحكمن صاحب القصر، وبعضهن امتد حكمهن الى ما وراء القصر، وعلى الدوام اتخذت الحظايا والجواري من الخصيان آلات لتنفيذ الأغراض وأحكام الدسائس حتى أن بعض الأذكياء من هؤلاء الخصيان بلغ من النفوذ درجة جعلته السيد المطاع في ممالك ذات خطر ومكانة ممتازة، وكافور الأخشيدي برهان ناطق على صدق ما أقول. ولعل إحصاء الجواري اللائي حكمن الدول من وراء الستاء شيء يطول شرحه، لذلك سنختار أروع ما عثرنا عليه وأمتعه وأكثره دلالة على فساد نظام الحريم ومقدار أضراره بالممالك الشرقية على وجه الخصوص.

في مصر

اعتاد الخليفة الفاطمي “المستنصر بالله” أن يحتال في أمر الحج، فيذهب في زمرة من الحجاج على الجمال متظاهراً بأنه يعتزم السفر الى الحجاز، فإذا بلغ “بركة عميرة” الواقعة في شمال القاهرة –وكانت محطة يلتقي فيها الحجاج جميعاً ثم يسافرون في قوافل تحميها الجنود-، نقول كان المستنصر بالله يلقي عصا الترحال عند هذه البركة هو وحاشيته وهناك ينصبون الخيام ويعاقرون اللذات، ثم يعودون بعد انقضاء مدة الموسم كأنهم عادوا من بيت الله الحرام. ففي سنة 454 هجرية حدث أن أحد جنود المستنصر بالله الأتراك أفرط في الشراب ولعبت برأسه الخمر، فاستل سيفه وهدد أحد الجنود السود من حرس الخليفة، فهجم رفاق الزنجي على التركي وقتلوه، وجاء الجنود الأتراك الى الخليفة وقالوا: “اذا كان هذا الجندي قتل برضاك فالسمع والطاعة، وإن كان هذا من غير رضى أمير المؤمنين فلا نرضى.”

فأجاب الخليفة بأن ما حصل كان بغير رضاه! فانقض الأتراك على السودانيين وكانوا كثاراً ونشبت بينهم معركة، ولكن أم الخليفة المستنصر بالله كانت زنجية.

وحسبك أن تعلم عن نفوذها أنها ولت الوزارة إسرائيلياً كان فيما مضى سيدها، وأنها استكثرت من شراء أبناء جلدتها حتى بلغ عددهم خمسة عشر ألفاً، غير الذين أوصت أنصارها من القواد والكبراء بابتياعهم، فأصبحوا جيشاً كامل العدة والسلاح، يخضع لأوامرها ويصدع بمشيئتها. وعلى رغم الثروة التي جمعها ابنها الخليفة المستنصر من احتكار الغلال وبيعها بأثمان باهظة، فإنها أرهقتها إسرافاً وبذخاً وبعثرت باليمين والشمال.

نشبت المعركة إذن بين جيشين، جيش الدولة وجنوده بيض وجيش أم الخليفة الزنجية وجنوده عبيد سود، وكانت الحرب سجالاً بين الفريقين، استمرت سنوات سادت فيها الفوضى واضطراب حبل الأمن وضعف نفوذ الدولة، وتلاشت هيبتها في الداخل والخارج. وبعد أن كانت سوريا هادئة تمرد حكامها، وبعد أن كانت الدولة البيزنطية مسالمة بمقتضى هدنة أبرمت في أوائل حكم الخليفة، طغت على أطراف الدولة الفاطمية، وبعد أن كانت الدولة آمنة على مستعمراتها اقتطعت منها جزيرة “صقلية”، بل وقعت الطامة الكبرى بنشوب الحروب الصليبية، التي عجل بها ضعف الفاطميين والعباسيين والخلاف المسلح الذي احتدم بين الفريقين، تضاف الى ذلك أطماع دولة البربر في غرب أفريقيا وانقسام الأندلس.

ولا شك في أن الدولة الفاطمية شرعت تنحدر منذ تلك الحرب الأهلية بين البيض والسود، ولا شك في أن أم الخليفة المستنصر كانت المحرك الأكبر للفتنة، كما كانت السبب المباشر وغير المباشر في نضوب خزانة الدولة.

فانظر كيف دالت دولة الفاطميين بسبب جارية سوداء قبضت على زمام الأمور من خلف الستار!
الخلافة العباسية تديرها الجواري!!

كانت لأم الخليفة العباسي المقتدر بالله، -وهي جارية تركية- سطوة على رجال الدولة، وكانت تتصرف في الأحكام دونه بالاشتراك مع الحجّاب والخدم، وكان الوزراء يهابونها ويرتعدون خوفاً من ذكرها وكانت هذه السيدة ترتشي، وتشاركها في أخذ الرشوة والمساومة على الوظائف وقضاء المصالح، سيدتان: إحداهماخالة المقتدر، والثانية أم موسى القهرمانة، وقد أخرجوا من قبر الأولى 600 ألف دينار كانت قد خبأتها ضناً بأن يحرزها انسان بعد موتها.
ثم جاءت أم المستعين بالله (المتوفى سنة 251هـ) وكانت جارية صقلية، فأطلق الخليفة المستعين يدها في أمور الدولة يعاونها في ذلك قائدان تركيان هما: “أتامش” و”شاهك”، فكانت الأموال التي ترد الى بيت المال من نواحي الدولة العباسية، يصير معظمها الى هؤلاء الثلاثة.

بل كانت أم “هارون الرشيد” نفسه من الجواري وقد استبدت بالأمور في خلافة أخيه الهادي، لكنه منعها وحظر على رجال الدولة الاتصال بها، فحقدت عليه، الى أن عزم على اقامة ابنه خليفة من بعده وحرمان “الرشيد” فبعثت من دس له السم فمات، وأطلق الرشيد لها العنان، إلا أنها لم تعش طويلاً –فماتت عن ثروة طائلة انتفع بها هارون في توطيد ملكه وإصلاح دولته.

إيطالية تحكم تركيا

أغار القراصنة في البحر الابيض المتوسط على سفن خرجت من مدينة “جنوا”، وكان هؤلاء القراصنة في الغالب من الجزائريين، لا يبالون بشيء ولا يحترمون كبيراً ولا صغيراً ولم يكن احد يستطيع مغالبتهم لأوكارهم التي امتدت على طول الساحل الإفريقي من تونس الى بوغاز جبل طارق.

واتفق أن هذه السفن كانت تحمل أفراد عائلة شهيرة من نبلاء “جنوا” التي ازدهرت تجارتها وقوي نفوذها في القرون الوسطى، واعترفت بجمهوريتها كبريات الدول وتعاهدت معها.

ومن بين هذه العائلة اختطفت فتاة تدعى الآنسة “أمى دي بافو”، فذهب بها القرصان الى الأستانة، وعرضوها للبيع في سراي السلطان مراد الثالث، فاشتراها واتخذها محظية له، وبعد أن ولدت له ولداً سماه محمداً “هو محمد الثالث” اعتقها واتخذها زوجة شرعية وسميت صفية الإيطالية، وقد استأثرت بلبّه وتسلطت على شؤون الدولة العثمانية، فما فعلته أنها جددت امتيازات “جنوا” ودست على الوزير الكبير محمد صقلي باشا، وكان من عمد الدولة، واستطاعت ان تتخذ من الإنكشارية آلة لبث الفتن والثورة على القواد بل وعلى ارادة السلطان نفسه.

والأمثلة التي تنطوي على أفظع الجنايات كثيرة، تصور لنا ان نساء “الحريم” كنّ في أحيان غير قليلة يديرن شؤون الملك بالاتفاق مع الخدم والحشم والخصيان وهي ظاهرة تكررت في الدول الشرقية التي ساد فيها نظام “الحريم” وما فيه من أسرار وفجائع!