وثيقة أدبية وفنية بعنوان: نازك الملائكة تكتب عن العَذول والواشي في الأغنية العراقية:

933

ارشيف واعداد عامر بدر حسون : بقلم نازك الملائكة /

في الحكايات العذبة التي سمعناها في طفولتنا أن فتاة يتيمة عثرت في تجوالها على أمير نائم نوماً دائماً، وقد حكم غيبٌ مقدَّر ألا تنقذه من نومه إلا فتاة ترضى أن تواصل السهر كل ليلة سبع سنين تروِّح له خلالها بمروحة مسحورة.
وقد وقع هذا الأمير من نفس الفتاة فسهرت سبع سنين وروّحت له حتى دنا موعد استفاقته، لكن النعاس غلب الفتاة الساهرة في الدقائق الأخيرة فأغفت، واذ ذاك برزت غريمة سوداء مجهولة وانتزعت المروحة من يدها وروّحت للأمير دقائق، وعندما استفاق ظن أنها هي التي أنقذته فتزوج بها، واستفاقت المنقذة الحقيقية فاذا كل مجهوداتها قد ضاعت.
إن هذه الحكاية الأسطورية الساذجة أعمق مما تبدو لنا أول وهلة، ولعلنا نرثي كثيراً للفتاة اليتيمة ونحمد الله على أن قصتها خرافة لا حقيقة، غير أننا لو دققنا في موقفها وحلّلنا مشاعرها لوجدناها تتصل بحياتنا المعاصرة في العراق اتصالاً وثيقاً. اننا كلنا هذه الفتاة اليتيمة، وشخصية الغريمة السوداء المجهولة تملأ حياتنا وتلقي ظلاً غامقاً على آمالنا وأفكارنا، وانها تنتصب شامخة في كل أغنية من أغانينا، سواء منها ما تردد على شطآن دجلة والفرات في جنوبي العراق او ما كتب في المدن المتحضرة التي نظنها تخرج تدريجياً عن الإطار النفسي القديم لثقافتنا الشعبية، مع انها في الواقع لا تفعل ذلك الا ظاهرياً وحسب. واذا كانت الفتاة اليتيمة قد أحسّت بالحزن والثورة على غريمتها السوداء، فإن أغانينا لم تزل حتى اليوم تردد تلك الحسرة التي ملأت قلبها وهي ترى جهودها الطويلة تتبدد، وكأن كل لحن من ألحاننا قد نذر نفسه للثأر من تلك الغريمة.
إن شخصية الغريمة السوداء التي لا يملك قلبها حنان الإنسانية، لم تزل هي الشخصية الكبرى في الأغاني العراقية التي يرددها الشعب، ولكنها، طبعا، لا تتخذ شكل فتاة سوداء ذات مروحة، وانما تلبس ثياباً شعبية من حياتنا المعاصرة، فنحن نجدها متخفية في ثياب “العَذول” و”اللائم” اللذين تكثر أغانينا الشكوى منهما، وقد تتخذ هيئة “الواشي” و”النمّام” اللذين يعكّران على المحب سعادته بنقل أنبائه الى حيث يجب الا تنقل، ومن اقنعتها الكثيرة شخصية “الحسود” التي لا ينقطع شعور المحب العراقي بها، وفي أحيان لا تندر تظهر الغريمة السوداء متخفية في ثياب الشخصية العراقية التي تسميها أغانينا “حافر البير”، وهو شخص يوقع بغيره ويحوك الدسائس. إن هؤلاء كلهم: العذول، والواشي، والنمام، والحسود وحافر البير ليسوا الا أوجهاً متعددة لشخصية الغريمة السوداء في حكاية الفتاة اليتيمة، فإن وظيفتهم الأولى هي التعكير على المحب الذي يبقى شاكياً من سوء المعاملة التي يلقاها منهم.
غير أن الغريمة السوداء تظهر في أغانينا على صور أخرى أكثر خفاء، وقد تبرق عيناها خلف تلك الأغاني الوديعة التي يشكو فيها المحب من أهله الذين يتدخلون في شؤونه العاطفية ويحولون بينه وبين حبيبته. وبعد فمن هم “هلي يا ظلاّم هلي” هؤلاء؟ أليسوا هم الغريمة السوداء التي تجيء لتحطم الآمال في اللحظة الأخيرة؟ إنهم صنف آخر من العراقيل، والنتيجة ان الفتاة اليتيمة تخرج في كل مرة مدحورة وتلوذ بالغناء الحزين الذي مازال يردده سواق السفن العراقية وهم ينحدرون في الفرات من قرية الى قرية بين الشواطئ المثقلة بالنخيل.
إن هذه الظاهرة الراسخة في أغانينا، ظاهرة الغريمة السوداء وتأثيرها القدري المحتوم في حياة المحبين تلفت النظر، فبدلاً من أن تقتصر الأغاني العراقية، كأغاني الشعوب الأخرى، على تقديم شخصية المحب بآماله وعواطفه وأفكاره، نجدها تقدم شخصاً أقوى منه يدحره ويحوّل ألحانه الى تفجّع ولوعة. إن المحب في أغانينا شخصية ضعيفة تكثر الشكوى من العذول، ويدحرها الحسّاد والوشاة، ويلعب بها حُفار آبار أزليون لا رحمة لهم. إنهم دائماً الآخرون.. هؤلاء الآخرون الذين حالوا دون أن يحقق أحلامه، لقد كاد يصل لولا النمّام.. لولا أهله الذين منعوه، لولا العذول المغرض.. لولا هذه الغريمة السوداء اللئيمة التي تدحر العاشق في كل حالة وترسله يغني تحت شجرة عند ضفة نهر بارد الشعور لا يشاركه الحزن.
وهكذا نجد أغانينا تقدم محباً يشعر بسطوة آخرين على حياته شعوراً لا مثيل له في أغاني الشعوب الأخرى، إنه يحسب بأن قوة اخرى أعظم منه تلعب بمصيره، وهو يتضاءل إزاء هذه القوة حتى يفقد قدرته على السلوك ويتحول الى السلبية. إن المحب العراقي يبدو في أغانينا وكأنه يرى المجتمع كله معادياً له، واقفاً بالمرصاد ينتظر أن يخيب في حبه لكي ينهال عليه لوماً ويذكره بالنصائح التي لم يصغِ اليها، فالمجتمع هو الدائرة الأوسع للآخرين، والمحب يبقى وحيداً في زاوية أشبه بغزال تطارده نبال الصيادين.
والواقع أن في وسعنا أن نصوغ قانوناً عاماً للإطار الذي تدور في نطاقه أغانينا، ففي كل أغنية شخصان اثنان يقوم بينهما صراع دائما: شخصية العاشق وهو يحاول أبداً أن يصل الى حبيبته، وشخصية الغريمة السوداء التي ينوب عنها العذول والواشي وحافر البير وهلي يا ظلام هلي.
واذا أردنا أن نمضي أبعد قليلاً ونحاول أن نربط بين هذه الظاهرة الغريبة وحياتنا العامة في العراق، فإن علينا أن نحلل طبيعة الغريمة السوداء ومسلكها، والسؤال الأول الذي نلقيه هو هذا: من هو هذا العذول؟ ولماذا يأخذ على عاتقه أن يعذل؟ وأول ما يلفت نظرنا أن العذّال في أغانينا لا يعذلون عن طمع او منافسة.. إنهم اشخاص آخرون لا شأن لهم معنا في الغالب، وهم لا يملكون دوافع حياتية ملزمة تسوقهم الى العذل او الوشاية، وانما يعذلون ويشون دون غرض، وكأن الإيذاء فنهم الجميل الذي يحبونه لذاته ويتأنقون فيه، غير أن هذا التعريف الذي تقدمه أغانينا للعذول يجعل وجوده غير مبرر، وليس من المعقول في علم الاجتماع أن توجد في مجتمع ما شخصية عامة كشخصية العذول عندنا دون أن تكون في ظروف المجتمع مبررات منطقية لوجودها تفسح لها مكاناً وتمنحها ما تملك من قوة، وهكذا نجدنا نجابه سؤالنا الأول من جديد: من هو العذول؟ ولماذا يعذل؟
وربما استطعنا أن نجد جواباً للسؤال بأن ندرس العذول من وجهة نظر المحب، وأغانينا تعطينا أجوبة وافية في هذا الشأن، فالغريمة السوداء توصف أبداً بالقسوة والظلم والتجنب، وليس في أغانينا قط أغنية حب للعذول وكيف يبدو العذول للمحب؟ إنه قوة شريرة تقف بالمرصاد، ويد توزع الدموع والغصص، والحق أنه ليس في وسعنا، حتى نحن الذين نقف حكاماً في القضية، أن نجزم بأن العذول طيب القلب في زجره ولومه مهما كانت أسبابه الدافعة، اننا لا ننكر أن من الممكن أن نحب الآخرين بحيث ننصح لهم بما يكرهونه وهو خير لهم من وجهة نظرنا نحن، غير أنه من السخف أن نمضي في هذا اذا استمر يسبب لهم الدموع والعذاب والقلق. إن المصلحة الأولى للإنسان ان يكون سعيداً، وكل نصيحة منا تنتهي به الى العذاب ليست نصيحة مخلصة، لا من وجهة نظر الفرد ولا من وجهة نظر الإنسان عامة، فما من شيء يغذي الإنسانية وينمي روح الخير والجمال فيها كالسعادة، ان الفرح قوة وخصوبة واندفاع نحو الإنسان الكامل، ومن ثم فما أشد حماقة العذول وهو يردع المحب، وينهاه عن أن يكون سعيداً.
على أننا، ونحن نحاول أن نعدل في الحكم على هذه القضية الطريفة التي تثيرها أغانينا العراقية كل يوم، نود أن ندرس عواطف العذول ايضاً، وانه لمؤسف حقاً أن العذول لا يغني قط كما يغني المحب، فلو غنّى وكشف لنا عن مشاعره لربما فاز بكثير من مشاركتنا وعطفنا. فما الذي يجعل العذول عذولاً؟ هل من المعقول أنه شر صرف في نفسه لا غرض له غير الإيذاء؟ إن الشر ليس مادة الحياة الإنسانية رغم وجوده فيها، وانما يقع في الحالات التي لا نملك فيها قدرتنا على الاختيار.
وأول ما نجزم به أن العذول ليس إنساناً سعيداً، ولو كان سعيداً لا نشغل بأفراحه ولم يجد وقتاً لجمع العبرات من أعين المحبين.
إن العذل ليس مظهراً فارغاً وحسب وانما هو ايضاً دليل ألم، والإيذاء لا يأتي من إنسان سعيد قط وإنما يصاحب الضعف وقلة الثقة بالنفس، إننا نساعد الآخرين عندما نحس أننا نملك مصيرنا، وفي وسعنا أن نحب بكرم وتدفق، وكأن الشعور بالقوة يجعلنا نفيض ونغدق من كياننا على الحياة، أما عندما نكون محرومين، شاعرين بالعجز وبأن أيدينا مغلولة لا تملك أن تمنح، فاذ ذاك يصبح الإيذاء قريباً من الحاجة والضرورة، او لنقل أن الكراهية تجنح الى أن تصبح التعبير الوحيد عند الإنسان الذي لا يستطيع أن يحب، وهكذا يجد العذول أن الإيذاء قد بات وسيلة حياة بالنسبة له، والحق أننا نشك كثيراً في أن العذول ليس محباً فاشلاً في الأصل.
ومهما تكن مشاعر العذول، فلا بد لنا أن ننبه في ختام بحثنا القصير هذا الى أنه في تعبيره عن دوافعه الشخصية المحدودة، لا يخرج عن أن يكون أداة مقصودة يحكمها المجتمع في حياة المحبين، وذلك لأن وجهة نظر المجتمع أن يردع المحب ويحرمه من الحرية، والعذول، بهذا الاعتبار، ليس محباً فاشلاً في الأصل.
وهو ليس أقل من شرطي مسلح يسلّطه المجتمع على المحب ليحول بينه وبين السلوك.
وهكذا تجدنا نميل الى تعديل معادلتنا الأولى التي وضعنا فيها المحب في مقابل العذول، فها نحن نصل الى معادلة أوسع تقف فيها الحياة، باندفاعها وحرارتها وتدفقها، في مقابل ضمير اجتماعي صارم لا نحاول أن نحكم عليه هنا. إن المجتمع العراقي يحكم بلا تردد للغريمة السوداء وليس عطفه على الفتاة اليتيمة إلا كلمات ولسنا ندري بعد إذا كانت الأسطورة تستطيع أن تتحقق في حياتنا المعاصرة، فيفطن الأمير النائم أخيراً الى المؤامرة ويذهب باحثاً عن فتاته التي أنقذته من سباته الطويل.