وودي آلن في خيال وودي آلن

881

مقداد عبد الرضا /

يقول المخرج فرانسوا ترفو: يبدو لي أن الكبرياء في السينما مسألة غبية تماماً, فالذي يجب أن يكون مهمّاً هو النتيجة, إذا كانت هناك ضرورة لأن أعمل مع ثمانية أشخاص سيناريو فيلم واحد فلن أتردد, سوف أكتب أسماءهم في الفيلم, أما أؤلئك الذين يريدون أن يكونوا لوحدهم مؤلفي أفلامهم فليس أمامهم سوى أن يعملوا وحيدين, إنه لمن الواضح أن عمل فيلم ما هو عمل شخص واحد يعود إليه كل مايحدث بين الحركة والتوقف ويتخذ لوحده القرارات على مدار فترة التصوير, إنه جامع خيوط الآخرين الذين يعملون معه في إنجاز الفيلم.
هذا الولد الخجول المأخوذ بالصمت والضجّة في آن, الولد الذي يعرف طرقات نيويورك وحاراتها, أفلامه أغلبها عن نيويورك وأناسها, الولد عازف الساكسفون الباهر مع فرقته كل أسبوع, الولد الذي يحب السينما, يقدمها لنا كما هي دون فذلكة, دون فذلكات الزمن الحديث. إنها قصص, قصصه هو, تجارب حياته, يعلق بسنّارة دماغه أى حادث حتى ولو كان عابراً ويختزنه إلى أن يصبح ناضجاً ويقدمه لنا على طبق من خيال, منزوٍ لايحب الأضواء, في مرات كثيرة يرشَّح للجوائز، لكننا نعرف أنه يجلس بهدوء في شقته يفكر في: ما الذي يتوجب أن أفعله في المرة المقبلة, ماهو الفيلم الذي سيسعدني قبل أن يسعد الآخرين؟
-رجل بدين : هل تعلمت صناعة الأفلام في المدرسة؟
-ساندي : لا لا لا أبداً, لم أتعلم أى شيء في المدرسة, هم تعلموا مني.
المدرسة لاتعلم سوى شكل الحروف وكيف تلفظ, عليك أن تسعى في دروب حياتك, عليك بالخيال لا بالمعرفة, هل تملك خيالاً؟ هذا الوودي آلن الصريح يلتقيه ستنك بيوركمن في لقاءات تمّت عبر سنوات ليعلن أن كتابه هو أفضل رقعة لمعرفة كل حياة وودي آلن, كتاب من القطع المتوسط يقع في 430 صفحة أصدرته “مؤسسة المدى” ضمن مشروعها في كتب الـ(سيرة) يتحدث عن حياة المخرج والممثل والكاتب وعازف الساكسفون وساحر النساء وودي آلن, لقاء امتد لست سنوات أجراه السويدي ستنك بيوركمن بدأ في العام 1986 حينما حضر بيوركمن إلى نيويورك لمشاهدة فيلم (حنا وأخواتها) الذي أنجزه آلن في ذلك العام, لكنه، وكالعادة، اختفى وظهر في أحد النوادي يعزف على آلة الساكسفون مع الفرقة التي يلتقيها مرة كل أسبوع ويروح يداعب هذه الآلة بمتعة لاتضاهى وتعادل كل تلك الأضواء التي قد يحلم بها الكثير.
إن الحياة بمجملها انعكاس لحياة أخرى, حياة خيال, خيال يصنعه خيال, شريطة أن يكون الخيال متحرراً تماماً, الحرية بكامل معناها, الحرية برعبها ونتائجها, الخيال المتحرر الذي سيكون حتماً وقوداً لخيالات كثيرة تنشأ وتحفز وتصنع حدوداً غير تلك الحدود التي تحدها الخرائط لبلدان قد لايعرفها أحد, هي أفلامه, طفولته في بروكلن, حوارات حول مايفضله من أفلام, الممثلات اللائي يحبهن, السينمائيون الكبار, بيركمن وخفايا النفس البشرية والتشابه في العزف, الانتقاء البصري ومن له التأثير عليه في ذلك, “حينما كبرت وصرت في سن المراهقة, لا أتذكر أنني صرت في سن المراهقة, وقتها أدركت أن بعض المخرجين أفضل من غيرهم, وحينما بلغت الخامسة عشرة من عمري افتتحت بعض دور السينما الأجنبية خلال الحرب, لكن فيما بعد، أى بعد الحرب، بدأت أشاهد أفلاماً تعتبر تحفاً فنية, كانوا يستوردون أفضل الأفلام, ثم أصبحت فيما بعد على وعي بالمخرجين الإيطاليين والفرنسيين, في مرحلة ما شاهدت فيلماً لأنكمار بيركمن أظنه كان بعنوان (صيف في مونيكا), كان فيلماً رائعاً سحرني، ثم شاهدت (الليلة العارية), بعدها انتشرت أفلام بيركمن في الولايات المتحدة.”
إن الكون يتمدد وهذا مايجعله مألوفاً ومحتملاً, تقديس الأحلام, الخوض فيها حد المتعة والجنون, هل من أحد يمكنه أن يفسر لنا هذا التعلق الباهر بالأحلام؟ لعلها هي الطريقة الوحيدة التي تجعلنا بعيدين عن المأزق, المألوف واليومي الباهت, هي الدواخل إذاً.
-ألفي: أنت تعلمين أني, أنا مهووس بالموت, إنه مضوع كبير يشغلني, صحيح؟
-آني: صحيح؟
– ألفي: إن نظرتي متشائمة عن الحياة, يجب أن تعرفي هذا عني إذا كنا سنخرج معاً, أنا أشعر بأن الحياة تنقسم إلى الفظيع والبائس, سيكون الفظيع, لا أعلم، كالأمور الحتمية والمكفوفين والمعقدين.
-آني: أجل
-ألفي: لا أعرف كيف سيعبرون الحياة, إنهم يذهلونني كما تعرفين, البائس هو كل شخص آخر, هذا كل مافي الأمر, إذاً حينما تعبرين الحياة يجب أن تشكري نعمة أنك بائسة, لأنك محظوظة جداً لتكوني بائسة جداً.
-ألفي: أف
في خضم هذا اللامعقول وهذا العنف واللاإنسانية التي نقابل بها كل صباح كل يوم, لابد لنا أن نفضل العيش مثل أولئك البؤساء الذين يفضلون الحياة في الظل على أن يتمرغوا في جحيم الغش والخداع, إننا نعيش الأيام كما لو أننا لانتعرف على هذا العالم الموبوء بالخزي والعار, عالم ملتبس لانجد فيه موضع قدم, إذاً نحن بؤساء, “أنا أعيش في شقة في فيفث أفنيو وأعيش أيضاً في الناحية الغربية الراقية من نيويورك, عندما كنت أقوم بتوصيل أبنائي إلى المدرسة في الوقت الذي تحضر فيه الأمهات الأخريات أبناءهن إلى المدرسة كنت ألاحظ أنهن يرتدين معاطف فخمة, إنهن يعشن حياة آمنة ولديهن منازل كبيرة ويمضين جلّ أوقاتهن في التسوق وتناول الغداء، وبين الحين والآخر قد تنضم إحداهن إلى مشروع مع فنانين أو كتّاب أو سياسيين, لكن يبدو لي أن هذا الأمر بمجمله مصطنع. أنا لا أكره هؤلاء الناس لكني أجد أن من الأفضل لو أنهن ركّزن على أمور أخرى أكثر جدوى, لعله عالم بائس تماماً كما أسلفت لك, لدي أشياء قليلة في منزلي لكنها مهمة جداً, هناك لوحة جميلة جداً, أملك عدداً لابأس به من اللوحات لفنانين مهمّين وأثمانها باهظة جداً, لكن كما تعلم لو فتحت تلك القنينة وخرج الجنّي فلن يعجبه هوسي, سأعلن إفلاسي بسرعة, لذلك تجدني سعيداً جداً ولم أشعر يوماً ما بأنني تعيس.”
بقي أن نعرف أن وودي آلن يبلغ من العمر84 عاماً ولايزال يعمل في إنجاز أفلامه. في العام الحالي 2019 أنجز فيلم (يوم ممطر) في نيويورك وللعام المقبل هناك فيلم يقوم بالعمل عليه, أليس هذا مبعثاً للسعادة, السعادة بوجهها الآخر؟