فان كوخ صاحب أشهر أذن في القرن العشرين

1٬004

عواد ناصر/

منذ أن فتح فنسنت فان كوخ عينيه (في آذار/ مارس 1853) ورث الشعور بالذنب بسبب ولادته بعد عام واحد من ولادة أخ ميت وفي اليوم نفسه، كان يحمل الاسم نفسه، فنسنت، لينشأ، كما ذكر قلة من كتاب السير والمؤرخين، طفلاً من طينة غريبة، يلازمه شعور بالذنب رافقه بقية حياته، من بين أخوين آخرين، بنت (إليزابيث) وولد (ثيو) الذي أصبح صديقه أكثر مما هو أخوه.
عندما أرسله أهله ليكمل الدراسة الثانوية في منطقة نائية عند الحدود الهولندية البلجيكية، شعر بيتم حقيقي وغربة ممضة وانفصال تام عن مسقط رأسه، مما سبب للفتى الحساس مرض الحنين إلى الوطن (Home sick) وأثر في تطوره السيكولوجي، لاحقاً، على أن المعلومات المتوفرة عن سنواته المبكرة شبه شحيحة وغائمة.
كتب بعد سنوات عن تلك التجربة يقول: “مرضت، وخلال مرضي لم أنس أبداً وأنا أرى، ثانية، كل مكونات بصيرتي المبكرة، وأنا طفل، الحقول المترامية الأطراف حتى الأفق البعيد، كل نبتة في الحديقة وكل ممر، الجيران، المقبرة، الكنيسة، والمطبخ في نهاية الحديقة”.

آكلو البطاطا
مرت حياة الفتى بمنعرجات عدة، فبين طموحه بأن يصبح وزيراً ورجل لاهوت ومعلماً وتاجراً صغيراً لبيع الأعمال الفنية، استغرقته كثيراً مشاعره شبه الصوفية وهو ينظر إلى أحوال الفقراء من حوله، حتى أنه كان يتبرع بما يملك من مال وغذاء لهم، ليجد نفسه قريباً من عمال المناجم متأملاً أحوالهم المزرية، ما انعكس لاحقاً على فنه، متجسداً في الكثير من اللوحات، أشهرها ومن بين أكثر أعماله جمالاً وهي “آكلو البطاطا”.
لكن ثمة أعمال فنية سبقت “آكلو البطاطا” تمثلت في رسومات لمزارعين كادحين وحصادين وجامعي غلة وحوذيين، من النساء والرجال.
في لوحته “آكلو البطاطا”، كما كتبت، أربعة أزواج يتناولون البطاطا في غرفة معتمة، تشبه حياة الفلاحين أو عمال المناجم، برغم الفانوس النفطي الذي يتدلى من السقف، بلمسة الأصفر الخجول وسط العتمة.
ثمة حركة مسرحية في اللوحة حوارها أعين الجالسين وأيديهم حول المائدة الفقيرة، وهم زوجتان وزوجان وصبية تدير ظهرها للمتفرجين.
الزوجة التي على يسار اللوحة تصب الشاي بينما يقدم لها زوجها حبة بطاطا مسلوقة في لحظة كرم متبادل وتضامن إنساني أكيد. بينما يغرس كل من الزوجين الآخرين شوكتيهما في صحنيهما، ويستغرق الزوج بنظرة ذاهلة ولكن ضمن التكوين التشكيلي المترابط بين العناصر الرئيسة للوحة، ليحوله فان كوخ “فيلسوفاً يغيّرُ عالَمَهُ بمزيدٍ من الأسئلةْ”.
في خلفية اللوحة ثمة نافذتان بلا وظيفة تؤديها النوافذ العادية، واللون حلٌّ مبتكرٌ لمشكلة التظليل في اللوحة التقليدية، ولكن النافذتين لا تعبران عن نفسيهما لا بضوء يأتي من الخارج ولا شكل “شخصيا” لهما، فهما لا أكثر من مستطيلين كئيبين بلا ظهور واضح.. كأنهما جزء من جدار معتم لا غير، ولا ينفتحان على أي أمل.
عتمة اللوحة، ظلامها تقريباً، عنصر درامي ضروري للتعبير سيكولوجياً عما يعتري الشخصيات من ظلام ولم ينفع الفانوس النفطي إلا بإلقاء لمسة الأصفر على الملامح المجهدة، وهي ملامح جعلها الفنان متشابهة، إلى حد كبير، ليعمق من وحدة البؤس بينها، تعزز هذه الوحدة أيدي الجالسين وقد رسمها ناحلة جدا تكاد مفاصلها العظمية وسلامياتها تخترق الجلد.
على أن من يدقق النظر في اللون (المعتم) سيرى، عدا الأصفر ممثلاً بفانوس النفط، ثمة الأزرق المشوب بالخضرة، لكن ضرورات التكنيك لا تنقذ المشهد من أساه العميق.
جعل الفنان من وجوه الجالسين في مستوى واحد ليبلغنا رسالة أخرى موجزة: إنها وجوه في مستوى واحد من الجوع والألم، وثمة ذاك التشابه في الملامح أيضاً، حتى ليتعذر التفريق بين وجه المرأة ووجه الرجل، لفرط القسوة.. وجوه خشنة تؤدي حياة خشنة حتى في لحظة استراحة يتناول أصحابها فيها الطعام.

لندن ديكنز
تنقل فان كوخ بين باريس ولندن، مسؤولا لفرعي شركة فنية (Goupil Art GallerY) في لاهاي، لكن إقامته بلندن (طوال سنتين) فتحت عيني الشاب الهولندي المتطلع على كنوزها الفنية والثقافية، معارضها التشكيلية ومكتباتها الكبيرة، ووقع تحت تأثير أشهر كتابها تشارلز ديكنز وجورج إليوت.
يذكر محرر الكتاب “فان كوخ.. العبقرية العميقة والمعذبة ” في أحد كتب السلسلة الفنية – عن دار DK- (باللغة الإنكليزية) عن المرحلة الإنكليزية في حياة صاحب أشهر أذن في القرن العشرين، وفي فصل بعنوان “لندن ديكنز”: “في عام 1873 أحس فنسنت بشعور غامر من السعادة وهو يكتشف لندن في روايات تشارز ديكنز، مستمتعاً بتجواله اليومي على ضفتي نهر التيمس، ليرسم بورتريهات المارة، بينما يمضي عطلات نهاية الأسبوع زائراً للمتاحف ليصبح على اطلاع واسع بالفن التشكيلي البريطاني”.
حكاية أذنه المقطوعة، التي أصبحت أشهر أذن مقطوعة في القرن العشرين، كما أسلفنا، لم تكن هدية منه لحبيبته، بل لإحدى بائعات الهوى الثملات في حانة لندنية طلبت منه مازحة إحدى أذنيه ليهرع إلى غرفته ويقطع أذنه بسكين مطبخ ويعود بها إلى تلك الغانية ملفوفة بمنديل!.
ومثل هذه الحكاية حدثت من قبل في سيرته الغرامية عندما أحب فتاة فمنعه أهلها من اللقاء بها عندما وضع يده على نار فانوس زيتي مشتعل قائلاً: “سأترك يدي في النار حتى توافق على لقائي، حتى سارع أبوها لإطفاء الفانوس وطرد العاشق من طرف واحد – (ويكيبيديا).
على أن الفتى أغرم بفتاة اسمها يوجين لوير (Eugenie Loyer) ابنة صاحبة البيت التي استأجر منها غرفة السكن.
ثانية، يخوض فنسنت غمار تجربة عاطفية باحثاً عن حب كان ملوناً بتأريخ العائلة وكأنه يتحقق من صحة المودة التي تبديها الأمهات. حب من طرف واحد، لتأتي خيبة الأمل، هذه المرة، فعل عقاب ذاتي (المصدر نفسه: السلسلة الفنية، بالإنكليزية).
عبقرية مفعمة بالعذاب والعمق، ومعمدة بالفاقة والمرض، ليبدو الفنان المجنون، كما كان يصفه جيرانه وصبيان الحارة، ثمرة فجة لعصر قاسٍ كابد فيه فان كوخ اختلال الموازين، ليعيش “مختلاً!” جائعاً بينما تباع لوحة واحدة من لوحاته، اليوم، بعشرات ملايين الدولارت!.